محمود الزيباوي
احتفلت منظمة الأونيسكو، للمرة الأولى في تاريخها، باليوم العالمي للفن الإسلامي، وقالت المديرة العامة لهذه المنظمة أودري أزولاي في هذه المناسبة: “نحيي هذا العام أول احتفال باليوم العالمي للفن الإسلامي، الذي أُعلن بغية الاحتفاء جماعياً بالتراث الإسلامي الرائع الذي تشكل عبر أربعة عشر قرناً من الزمن، والذي لا ينفك يتجدد، ويتحول، ويؤثر، في شتى ثقافات العالم بأسره”.
جاء هذا الاحتفال بعدما أعلنت الأونيسكو يوم 18 تشرين الثاني/نوفمبر من كل عام يوماً عالمياً لهذا الفن، وذلك في دورتها الأربعين المنعقدة في العام 1919. رأت المنظمة يومذاك ان الرسالة من هذا اليوم العالميّ تتمثّل “في التوعية والتعريف بأشكال التعبير الفني الإسلامي القديمة والمعاصرة، فضلاً عن إذكاء الوعي بإسهام الفن الإسلامي في صون حضارة الإنسانية ونشرها”. وأضافت في بيانها: “لا تقتصر هذه الرسالة على تقدير الفن الإسلامي حقَّ قدره، إذ يعدّ أحد العوامل الرئيسية لظهور العديد من الحركات الفنية، بل تسهم كذلك في إثراء التنوع الثقافي وحرية التعبير والذود عن التراث الثقافي والحوار بين الثقافات”.
شكّل الفن الإسلامي، منذ زمن تكوينه الأول في عهد الخلافة الأموية، حتى زمن تجلياته في القرن الثامن عشر، ميداناً واسعاً يصعب رسم حدوده بدقة. افتتنت أوروبا بهذا الفن في القرون الوسطى، كما تشهد مجموعة كبيرة من التحف التي دخلت العديد من أقاليمها في تلك الفترة. وبدا هذا الفن تزيينياً يومذاك في الدرجة الأولى، ولم يُعترف به كفن من الفنون الكبرى إلا في العصور الحديثة. بدأت دراسة الفنون الإسلامية بشكل علمي في القرن التاسع عشر، بالتزامن مع صعود الحركة الاستشراقية، وتمثّلت أولا بتكوين مجموعات فنية كبيرة من هذا الميراث المتعدّد الوجوه في أوروبا وأميركا، وذلك قبل دخول هذا الفن إلى المتاحف الكبرى.
في فرنسا على سبيل المثل لا الحصر، وفي زمن الفنانين المستشرقين الذين لحقوا بالرحّالة بحثاً عن المُغاير والجديد، شهدت الحياة الثقافية نمطاً آخر من طرق البحث عن الشرق شكّل أساساً متيناً لدراسة الفنون الإسلامية. فبينما افتتن الفنانون الرومنطيقيون بطبيعة الشرق ومعالمها الحية، انبهر بعض كبار الذوّاقة الأوروبيين بالفنون الإسلامية وشرعوا في تكوين مجموعات “إسلامية” خاصة. بدا الفن الإسلامي بالنسبة إلى هؤلاء الذواقة فناً “تزيينياً” بامتياز، وانكبّوا على دراسة زخارفه وتحليل تقنيّاته بغرض استنباط طرق جديدة من شأنها إعادة الروح إلى الفنون الحرفية الأوروبية.
في العام 1828، نشر المستعرب جوزيف رينو أول كاتالوغ كامل خاص بمجموعة إسلامية خاصة، وهي مجموعة الديبلوماسي دوق دو بلاكاس. صدر هذا الكاتالوغ الضخم في كتابين ضما زهاء تسعمئة صفحة، ويُعتبر اليوم أول كاتالوغ خاص يُعرّف بـ”أول مجموعة غربية للفن الإسلامي”. بعدها أصدر باسكال كزافييه كوست كتابا خاصا بالعمارة العربية في مصر في 1837. وبعد أربعة عقود، أصدر اميل بريس دافين موسوعته الضخمة، “الفن العربي من خلال آثار القاهرة، من القرن السابع إلى القرن السابع عشر”، وضمت هذه الموسوعة الاستثنائية مئتي لوحة توثيقية منجزة بتقنية الحفر الطباعي”.
تأسّست “مؤسسة متحف الفنون التزيينية” في العام 1878، ودخلت إليها أولى القطع الإسلامية بعد عامين. قبل حلول العام 1890، ضمّت مجموعة هذه المؤسسة تسعمئة وستًّا وتسعين قطعة فنية إسلامية، أضيفت إليها تسعمئة وتسع وأربعون قطعة خلال فترة لا تتعدّى عقدين من الزمن. ساهمت هذه المؤسسة في التعريف بالفنون الإسلامية من خلال تنظيم معارض كبيرة خاصة بها كان أولها في العام 1893. تبع هذه التظاهرة معرض خاص بالمجموعات الباريسية الإسلامية في العام 1903، ومعرض خاص بالأنسجة والمنمنمات في 1907، ومعرض للمنمنمات الفارسية في العام 1912. هكذا تحوّلت باريس إلى منارة للفن الإسلامي في العالم الغربي، تنافس برلين وفيينا ولندن في هذا المجال.
من باب “الديكور”، دخل الفن الإسلامي العالم الأوروبي في زمن سيادة مثال الجمالية اليونانية الرومانية على الحياة الفنية، وقد حافظ هذا المثال على سيادته هذه، بالرغم من هبوب رياح الحداثة التشكيلية في العواصم الأوروبية الكبرى. ترافق هذه “الدخول” مع بروز عدد من الدراسات الخاصة بالفنون الإسلامية، أبرزها كتابات مدير القسم الفارسي في مدرسة اللغات الشرقية شارل شيفر، ومقالات مدير متحف اللوفر غاستون مينيون. في خط موازٍ، دخلت الجمالية الإسلامية ميدان الفنون التطبيقية الفرنسية، وتركت أثرها العميق على عدد من كبار العاملين في هذا الميدان. في حقل السيراميك، برزت أسماء تيودور ديك وأوجين فيكتور كولينو وأندره ماتني وكليمان ماسييه. وفي حقل الزجاجيات، برز فيليب جوزيف بروكار وإميل غاليه. وفي حقل النسيج والأقمشة والأزياء، برز شارل فريديريك وورث وبول باوريه وماريانو فورتيني. وفي حقل الحلى والمجوهرات والحلى الذهبية، برز لوسيان فاليز وهنري فيفير.
جاء تيدودور ديك إلى باريس بعدما جال في فيينا وبودابست وبرلين بحثا عن آفاق وتقنيات جديدة خاصة بصناعة ما يُعرف بـ”فنون النار”، فشرع في دراسة الصناعات الشرقية، وتخصص بالسيراميك الإسلامي، وحلّل تكوينه وتركيبه الكيميائي، وتوصّل بعد جهد جهيد إلى تركيب مادة زرقاء تحمل اليوم اسمه. عشق هذا الحرفي اللامع السيراميك العثماني وغاص في أسراره، كما افتتن بالزخارف الفارسية التصويرية ووجد فيها مادة تزيينية لا تنضب، فنقل منها واقتبس من مفرداتها بطريقة خلّاقة أشكالاً صاغها في صناعة أوان عديدة تبدو في ظاهرها إسلامية شرقية.
في المقابل، سافر أوجين فيكتور كولينو إلى الشرق بحثا عن الجديد، ورافقه في سفره مساعده وشريكه أدلبير دو بومون، فشكّلا معا مجموعة إسلامية كبيرة تُعتبر من أهم المجموعات الخاصة، ونقلا منها نماذج زخرفية تصلح “للفن والصناعة” كما يقول عنوان كتابهما “ديوان رسوم للفن والصناعة” الصادر في العام 1859. من خلال هذا الكتاب، تعرّف تيودور ديك على الكثير من النماذج الإسلامية الخزفية، واستند إلى بعض من هذه النماذج في تحقيق عدد من الأواني التي صنعت شهرته في عالم الفنون التطبيقية. بالتزامن مع هذه التجارب، نجح فيليب جوزيف بروكار في صناعة زجاجيات مطابقة تماما للنماذج الأيوبية والمملوكية، كما نجح في ابتكار نماذج خاصة به تشكّل استمرارية خلاقة لنتاج القرون الوسطى. لعب هؤلاء الحرفيون المبتكرون دورا رئيسيا في التعريف بالفنون الإسلامية ونشرها في فرنسا وأوروبا، وتخطّت هذه الفنون عتبة الديكور لتدخل عالم الفن الكبير من الباب الواسع في القرن العشرين. شيئا فشيئا، وجدت الآثار الإسلامية طريقها إلى المتاحف الكبرى، وباتت لها أجنحة خاصة بها.
دعا هنري ماتيس إلى إعادة الاعتبار إلى عبارة “ديكور”، مذكّرا بأن فنون الماضي “الكبرى” كانت في الأصل فنون ديكور فحسب. وسار على هذا النهج عدد كبير من أعلام الفن الحديث. تخلّى مؤرخو الفن عن المنهجية التقليدية التي تفصل بين “الفنون العظمى” و”الفنون الصغرى”، وأعادوا الاعتبار إلى فنون الديكور، وأضحى الفن الإسلامي سريعاً فنا كبيرا له تاريخه الخاص ومدارسه المتعددة. هكذا برزت الجمالية الإسلامية الجامعة، وبرزت معها تجلياتها المختلفة: من مصر المملوكية، إلى الهند، إلى تركيا العثمانية، إلى إيران الصفوية، مرورا بالمغرب العُلوي والهند المغولية.
في الخلاصة، تحوّل الفن الإسلامي في الذاكرة العالمية من فن تزييني زخرفي إلى فن تجريدي روحي بامتياز، ووُصفت هذه التجريدية الإسلامية بـ”هندسة الروح”. ساد هذا الطابع التجريدي الجامع، غير أن سيادته لم تكن مطلقة، إذ بقي للفن التصويري حضوره الخاص في سائر أقاليم العالم الإسلامي، وتميّز بمحاكاته الطبيعة بجوهرها وليس بأشكالها النسبية المتغيرة، كما تميّز بابتكاره أساليب خاصة به في كل عصر من العصور المتلاحقة.
تدعو منظمة الأونيسكو اليوم إلى الاحتفال بهذا الفن، وإلى استكشاف تاريخه المفعم “بالمبادلات والاتصالات، والتأثير والتأثر، على الدروب الممتدة من أوروبا إلى أفريقيا، ومن حوض البحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الهندي”. وتؤكد أن هذا الفن يعكس ثقافة عظيمة الشأن، والتعرّف على هذه الثقافة وفهمها “بما تنطوي عليه من ماض زاخر وحاضر نابض، يمثلان اعترافًا بها وبقيمتها العالمية.”