د. وسام حسين العبيدي
واحدة من أسباب غياب الإبداع في مختلف تجلياته في حياتنا العربية، هي النظرة المُريبة الصادرة من الأعم الأغلب من المجتمع على اختلاف انتماءاته الطبقية، الذين يقودهم وعيٌ واحد يتّسم بالتماسك والانضباط لا إلى مرجعيات فكرية يصدر عنها ذلك الوعي بنُضج معرفي مُسوَّغ، وإنما تماسك وانضباط «ديماغوجي» قريبٌ من تلك النزعة البَدوية لدى ميسون بنت بجدل زوجة معاوية، حين بكت وحنّت إلى مضارب البادية وخيمتها مفضّلةً تلك الأجواء المُقفرة على أجواء المدنية وقصر زوجها معاوية الذي توفّرت فيه كلُّ معاني الراحة، هذه النزعة التي تلمّسناها في بيت ميسون الشهيرة ((لَبيتٌ تخفقُ الأرواح فيه.. أحبُّ إليَّ من قصرٍ منيفِ.. الخ)) لم تغب إلى الآن عن الوعي المجتمعي العربي، ولكن مع اختلافٍ في تجلياتها في المجتمع، فقد تمظهر الكثيرُ منها في حياتنا المعيشة على مستوياتٍ عِدّة، لاسيّما تلك المتعلِّقة منها بأردان الدين أو الثقافة أو التراث بصورة عامة، أما سِواها، فقد تجد الناس أكثر تقبُّلاً – من حيث التداول والاستعمال- للجديد من المبتكرات العلمية، وهم في الوقت نفسه يضنّون كل الضنّ بتلقّي الفكرة الجديدة التي تخصُّ واحدًا من تلك المجالات التي ذكرناها آنفًا، والاكتفاء بالبقاء على ما اطمأنوا إليه على نحوٍ جماعيٍّ يوفِّرُ لهم تلك اليقينية الصلبة التي يتحصّنون بها، تطبيقًا للمثل الدارج: «حشرٌ مع الناس عيد»، والمفارقة أنّه حتى الدين أو الثقافة لو فرضنا أنّهما الآن هبطا على هذا المجتمع الذي يدينُ بهما في واقعه الحالي ويعمل ظاهرًا بما يُلزمه ذلك الدين، وما تفرضه عليه الثقافة من تقاليد وطقوس وغيرها من ممارسات يومية على مستوى فرديٍّ أو جماعي، لكانا أيضًا منبوذَين عنده، ولا يلقيان التسليم والإذعان الذي نجده اليوم في هذه العيِّنة من المجتمع؛ والسبب في ذلك أنّهما جديدا الظهور في ذلك المجتمع، ولا بدّ – في عُرف المنطق الإتباعي النابع من تلك العقلية الدوغمائية- من مُدّة زمنية وتعاقب أجيال عليهما لتحصل بعدها تلك الألفة الذي يفضي بأفراده إلى تواطئهم الجماعي بيقينية مسلّمات ما توارثوه من دين وثقافة، وإلا فالدين نفسه الذي يُشكِّل هوية الأكثرية الساحقة من أبناء هذا المجتمع، كان إبّانَ ظهورهِ مستَنفَرًا منه، مُريبًا في نظر أولئك الأسلاف، الذين نقل القرآن الكريم موقفهم لنا في عدّة آياتٍ لأخذ العِبرة، منها قوله تعالى: ((وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)) وهذا المنطق – منطق الاتّباع الأعمى- لم ينقرض إلى يوم الناس هذا، إذ تطغى النزعة الإتباعية على مجمل النشاط الفكري في حقول معرفية متنوِّعة، لاسيّما ما أشرنا إليه فيما يتعلق منها بالتراث من معارف أدبية أو دينية، وفي الشقِّ الأول، نقف عند تجربة أدونيس في اختياراته الشعرية (ديوان الشعر العربي) فقد استشعرَ تلك السطوة، مبيّنًا أثرها على كبت كلِّ ما يخرج عن طوقها، بقوله: «إنّ القوى التي حاولت أنْ تُبدع شيئًا آخر غير ما عرفه الماضي قيل عنها إنها غريبة عن التراث العربي، وعن البنية الأساسية للذهنية العربية، وأنها تُفسد الأصول العربية» ولا يخفى ما في كلام أدونيس من موقف انتقاديٍّ لذلك الموقف «الإتباعي» المعبّأ بالأحكام الجاهزة وتعميمه إطلاق تلك الأحكام والأوصاف لكل من يخرج أو يجرؤ على الخروج عن بودقة الإتباع، الأمر الذي دفعه لبحث هذه الظاهرة في (الثابت والمتحول) متقصّيًا «الكشف عن سرِّ هذا العِداء الذي يُكِنُّهُ العربي، بعامة، لكل إبداع حتى لكأنّهُ مفطورٌ عليه، فإنَّ ردود فعله المباشرة، إزاء الإبداع هي التردُّد والتشكيك والرفض على مستوى الحياة العامة، والذم والقمع على مستوى النظام» وهذا ما كشف النقاب عنه عبر رصده الأنساق التاريخية والاجتماعية والسياسية العربية التي آلت بالنتيجة إلى تمكين تلك النزعة وتغوّلها في مجمل الشأن الثقافي العام الذي ساد ويسود مختلف الأنشطة المعرفية في واقع الثقافة العربية.
وفي الشقِّ الآخر، أي ما يخص الحقل الديني، نقف باختصار على مشروع المفكّر الراحل محمد أركون في نقد العقل الإسلامي، مستعيرًا له وصف (الأرثوذكسية) المقارب لمفهوم (العقلية الدوغمائية) الذي لا يُشير إلا إلى «التزّمت والانغلاق الذي يرفض كلّ ابتكار أو تجديد يخرج عن إطار المسلمات البديهيّة. وهذه المسلمات تشكّل جوهر العقلية الدوغمائيّة التي ترتبط بشّدة وبصرامة بمجموعة من المبادئ العقائدية وترفض بنفس الشّدة والصرامة مجموعة أخرى وتعتبرها لاغية لا معنى لها ولذلك فهي تدخل في دائرة الممنوع التفكير فيه أو المستحيل التفكير فيه وتتراكم بمرور الزمن والأجيال على هيئة لا مفكّر فيه من هذه المبادئ العقائدية التي يختص بها العقل الدوغماني» وبهذا يجد أركون أن الإسلام الشائع حاليا ليس هو الإسلام الكلاسيكي المُبدع والتعددي، وإنما هو الإسلام السكولاستيكي التكراري الذي لا يزال يسيطر علينا منذ عشرة قرون، ففي «المرحلة الأولى كانت لا تزال طازجة مترجرجة حرة قريبة من منابتها، وكانت تسمح بحريةٍ في التفكير والممارسة والخلق والإبداع لم نشهدها من بعد، أما في المرحل السكولاستيكية فقد أصبحت إكراهية وقسرية وتوصلت في بعض الأحيان إلى شل حركة الفكر العربي والفكر الإسلامي بشكل تام». وتجدر الإشارة أن أركون قد استفاد في طرحه النقدي، مما قدّمه علماء الغرب في هذا السياق، لعل أبرزهم: جان بير ديكونشي وميلتون روكيش، الذي توصّل إلى مفهوم (الصرامة العقلية) بوصفها «عدم قدرة الشخص على تغيير جهازه الفكري أو العقلي عندما تتطلب الشروط الموضوعي ذلك» ويقف ديكونشي مشخّصًا السبب في عمل تلك الصرامة العقلية بوضوح في الجماعات الدينية بصفة عامة، أيا كان انتماؤها، بحكم «أن العقائد الدينية تنحرف عن معايير العقل القائمة على الفرضية والاستنباط والتجريب فإنها تُعوِّضُ عن هشاشتها العقلانية هذه عن طريق صرامة الضبط النفسي والاجتماعي الذي يتحكم بهذه العقائد». وهذه البنية – بنية الثبات- تأسّست على مؤهلات نفسية وعقلية واجتماعية قد لا يُسعفنا المقام بالحديث عنها، إلا أنّه بصفة عامة، يُمكن أنْ نجد عنصر الشجاعة في تلقّي الجديد من الأفكار، والثقة بالذات من كونها لا تأخذ الماضي ولا الجديد أخذ مسلّمات لا تقبل النقاش، يمثّل عاملاً مهمًّا في خلق أرضية خصبة لاستنبات الإبداع، إذ لا يمكن بحال أن نؤمن بوجود ثمة معجزة تخلق الإبداع من لا شيء، وهذا الطريق – طريق الانفتاح على الذات- هو السبيل الآمن لخلق بيئة لوجود الإبداع الخلّاق في إيجاد أفكار حيوية تنسجم وواقع الحال ومتغيّراته الآنية، وفي الوقت نفسه لا تقصر في إعادة النظر في الموروث من تجارب وخبرات، وتلقّف المضيء منها لإنارة المعتم فيما نعيش فصوله المأساوية كل يوم.