صورة الفنان بين الوهم والحقيقة

T h i r d P e r s o n

عبد السادة جبار

حالة الخلق الفني أو الجمالي الهام ينبثق عبر تراكمات قد لا يعثر المبدع على جذورها الكاملة والكامنة أو المغروسة فيه إلا ما ندر ولذلك تشير بعض المدارس الحديثة للفن أو علم الجمال إلى أن الخلق الفني غير مرتبط بالوعي إلا فيما يتعلق باختيار الشكل أو يدخل وعياً آخر يشتغل عليه من أجل التجسيد. في السينما إذا ماصنفنا أحد الأفلام على أساس هذا النوع من الإبداع قد يبدو الأمر معقداً نسبياً خصوصاً عندما يتعلق الفيلم بحياة كاتب، أو روائي، فإن التعبير عن المعاني والكلمات والمفردات، قد يكون شديد الصعوبة بصرياً، أي يجد المخرج تحدياً في نقل أفكار الكاتب وعالمه إلى لغة سينمائية، كما يعتقد النقاد، المخرج المؤلف « بول هاجيس « يخوض تجربة جديدة وغريبة في فلمه « الشخص الثالث «، إذ يروي لنا الفيلم ثلاث قصص حب متداخلة ومختلفة، تجري أحداثها بين نيويورك وروما وباريس ويجمع نخبة من نجوم السينما، من بينهم ليام ينسون وميلا كونيس وجيمس فرانكو، وادريان برودي وكيم باسنجر، الفيلم فيه من الغموض ما يشد المشاهد إلى آخره، ولكنه أيضاً يفتقد إلى إثارة التوليفة السينمائية المعتادة التي قد تخرج بالفيلم من السرد الممل. «بول هاجيس» يعيد هنا تجربة فيلمه «كراش»، الذي أنتج عام 2005، حيث أراد أن يعيد لجمهوره حكاياته المركبة التي تنتمي لشخصيات ومدن شتى، ليجمعها فيما بعد في خيط واحد، تماماً كما حدث مع «كراش» الذي حصل فيه على الأوسكار.

قصة الفيلم
يبدأ بمشهد يضم «مايكل» الممثل ( ليام نيسون ) وهو يجلس أمام حاسوبه ويكتب، والقصص الثلاث هي مشروع رواية الكاتب المقبلة، وهو الفائز بجائزة عريقة عن روايته الأولى، ويريد أن يكتب عملاً جديداً مميزاً، يقيم في حجرته بأوتيل فاخر بمدينة باريس، ويحاول أن ينجز أحداث روايته، ساعياً أن يتجاوز بها النجاح الساحق، الذي صادفته روايته السابقة، تقتحم حياته صحافية، وهي «آنا «الممثلة ( أوليفيا وايلد )، تتابع أخبار أحدث المؤلفات الروائية، ولها حكاية متشعبة، وخيوط متشابكة، وتدخل في علاقة حب مع المؤلف ويتعلق بها، لكنه يتلقى من حين لحين آخر مكالمات هاتفية من زوجته الممثلة ( كيم باسينجر) تطمئن عليه، غير إنها تعرف بعلاقاته، تدعوه للعودة، برغم توجسها من وجود امرأة أخرى في حياته، تتقاطع تلك الحكاية مع الحكاية الثانية، تدور أحداثها في مدينة نيويورك عبر امرأة شابة «جوليا « الممثلة (ميلا كونيس)، تعمل منظفة غرف في أحد فنادق المدينة، عاشت حياة فاشلة، بعد تجربة زواج برسام مشهور» ريك « الممثل ( جيمس فرانكو) انتزع منها طفلهما، وحرمها من رؤيته؛ لأنها تشكل خطراً على حياته، من خلال تصرفاتها الهوجاء، وتحاول «ميلاكونيس» من خلال محاميتها، أن تحصل على حكم قضائي يمكّنها من رؤية طفلها الوحيد، وريك يعيش صراعاً أيضاً من أجل أن يورث طفله فن الرسم على طريقته، إلا انه يفشل أيضاً، الحكاية الثالثة تدور أحداثها في روما، عندما يلتقي مصمم أزياء « شون « الممثل (أدريان برودي) بفتاة غجرية « تيريزا « الممثلة ( ماريا بيلو ) في أحد البارات الصغيرة، وتسحره ملامحها وغموضها، فيتبعها أينما ذهبت، وتخبره أن هناك شخصاً قام بخطف طفلتها الوحيدة، وأنه يطالبها بفدية ضخمة، فيقرر شون أن يدفع الفدية، ويدبر لها المبلغ الضخم الذي طلبته، ولكن خلافاً شديداً ينشب مع الفتاة، تتقاطع تلك القصص الثلاث وكأنها في مكان واحد وتناغم موحد، الرابط الذي يجمع بين تلك الحكايات هو الكاتب نفسه، يتطلب مساحة من التفكير المتأني والعميق… لبلوغ الرابط، ومن ثم الانطلاق إلى تفاصيل الشخصيات التي تحيط بهم، وتأثيرها عليهم… ينتهي الفيلم مع مايكل الذي يلاحق آنّا التي اكتشفت أنها مجرد عابرة في حياته ربما لإكمال روايته عن الحب الكبير الذي يكنه لزوجته، وتكتشف أيضاً أن الاتصال بينهما هو السبب في فقدانه ابنه، تهرب، ويلحقها، لكن صورة آنّا تتبدل إلى جوليا ومونيكا، الجميع قرر الهرب أو الرحيل، فيجد شون طالب الفدية، إذ تتحول مساومات لاتنتهي إلا بتسليم الفدية.

المعالجة
يقدم المخرج الكاتب هنا صورة لنسيج الخلق الفني المتشابك في عقل الفنان الباطن والظاهر، حيث تهيمن التجربة والآلام والتداعي على الإسقاطات التي يفرزها، لتشكل مجموع الصور المتداخلة بحالات إنسانية حقيقية أو متوهمة، والرابط هنا قصص الحب المثالية المتدفقة كنوع من التعويض عن خسائره في الحياة الواقعية والتي يتركها تحيك خيوطها بنفسها في اختلاف الأمكنة والأبطال، لتنتهي لحظة الصدمة أي اليقظة من الوهم، تقول الممثلة موران أتياس:»أردت حقاً العمل مع بول مرة أخرى، كنت في حاجة إلى العثور على فكرة أو قصة جيدة، قلت سأبحث عن شيء بداخلي يثير اهتمامي حقاً، لذلك عندما أقترح عليّ بول العمل معه كنت متحمسة جداً»، إما الممثلة أوليفيا وايلد قالت:»لقد دهشت عندما قرأت السيناريو، فكل شخصية تعيش تجارب مختلفة في بلدان شتى.. للوهلة الأولى لم أصدق أن كل هذه القصص يمكن جمعها في فيلم واحد، الأمر بدا لي غير واقعي» بعض النقاد عبر عن رأيه بالقول إن هذه الأفلام تفوز بالأوسكار لكنها لاتفوز برضا الناس، إلا أن آخرين عبروا عن ذلك بالقول إن كل حكاية مليئة بالأهواء وتعقيدات الحياة، ومع كل قصة نكتشف حكايات… وأيضاً مساحات المتعة والألم… فالحياة ليست سهلة كما يتصور البعض… حيث نتربص الخدعة… والغضب… والغيرة الموجعة… وأيضاً السعادة المدهشة، كل ذلك عبر حكايات تأسرنا لكاتب وسيناريست يجيد حرفته. الذي فاز العام 2006 بالأوسكار عن فيلم كراش كما نشير إلى أن «هاجيس» كتب سيناريو فيلم مليون دولار بيبي للنجم كلينت ايستوود، وكتب له أيضاً رسائل من أبو جيما وفي مجال الإخراج كان آخر أعماله الأيام الثلاثة المقبلة العام 2010 مع روسل كرو. الفيلم بوح بدلالات رمزية عميقة ولهذا يظل المشاهد متعلقاً بالفيلم وأحداثه حتى اللحظة الأخيرة، مستمتعاً بأداء ليام نيسون وهكذا الأمر مع جيمس فرانكو بدور الفنان الرسام، وأيضاً الممثلة الرائعة ميلا كونيس والفنان أدريان برودي، وضع الموسيقى التصويرية الموسيقار الايطالي داريو مارينالي، وفي إدارة التصوير، كان مدير التصوير الايطالي جان فابيو كورتشيلي.

فيلم « Third Person»، تمثيل: ليام نيسون،ميلا كونيس، ادريان برودي، تأليف وإخراج: بول هاجيس

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة