د. سعد ياسين يوسف
حينما يكون الشّاعرُ بوصفه رائياً في مقدمة من يتصدى لتفكيك شفرات الواقع فهو بذلك يضع على عاتقه التنبؤَ بمستقبل أمة بأكملها وهنا تصبح للشّاعر ريادةُ الحياة والمجتمع موظفاً رؤاه الفكريّة والفلسفيّة وأدواته الشِّعريّة في بناء القصيدة التي هي عنده بيانُ استشراف لما سيكون حتى لو أحاطت الظّلمة به من كلِّ اتِّجاه معتمداً نورَه الداخلي في أستبيان الطريقِ إلى السَّماء وكما قال الشَّاعر الكبير (أودونيس) «إنّ من لا يعرفُ أنْ يرى الظّلمة لن يَقدرَ أبداً أن يرى النّور» .فيما يرى (فيكتورهيجو) في مجموعته ( أوراق الخريف) أن الشّاعر هو « الرّائي « الذي يرى ما لايراه الآخرون .
الشّاعر علي الفاعوري في مجموعته الموسومة (مقام الضَّباب) (*) متسلحاً بأدوات الرائي اقترب كثيراً مما أشرنا إليه مخترقاً ضباب العالم الذي يحيطه ليبصرَ من خلاله ما سيكون وهو في مقامه المضبب إذ تغيب الرّؤية وتتلاشى الأشياء عن البصرعند الآخرين.
ومن البداية تُحيلُنا العنونة إلى مداليلَ تمتد عَبر ثمانٍ وعشرين قصيدةً تلتقي أحيانا مع العنونة،وتفترق،مركزةً على رؤية الشّاعر لما يحاصره ويحيط بهِ . فمفردة مقام كما وردت في معجم المعاني الجامع، «هي أسم جمعها مقامات والمَقَامُ: مَوضعُ القَدَمين، ويعني المجلسُ: وهو الحجر الذي قام عليه إبراهيم حين رفع بناء البيت. والعرب قالت: لِكُلِّ مقام مقال: وتعني الدعوة إلى الملاءمة بين القول والموقف، وفي الموسيقى يعني سُلَّم الموسيقى، وهو تَسَلْسُل النَّغم درجةً فوق أُخرى».
والشّاعر المولع ب(العدول) أي بانزياحات اللّغة وتشظي المعنى لتوليد معنىً آخرَ ربما يجد نفسَه في كل هذه المعاني، إلا أن الفاعوري أراد أنْ يشتغل على معنيين من هذه المعاني ،المعنى الأول 🙁 موضعُ القدمين ) أي من مكان الأرض التي يقف عليها وهي الأرض العربيّة ،والمعنى الثاني هو ما يندرج تحت مفهوم الموسيقى وهو(تسلسلُ النغمِ درجةً فوق أخرى) معتمداً الصوت والإيقاع في التعبير عن حزنه الذي تراكم ليشكّلَ صورة الأعرابي الذي تبتلعه رمال الصَّحراء رويداً رويداً وهو يلحّ بالنداءعلى أخوته وأبناء عمومته محذراً اياهم من ضياع لن يُبقي ولن يذر بعد أنْ غلّف الضَّبابُ الأرضَ وما عليها ليأتي (مقامُ الضَّبابِ )مضافاً إلى (360) مقاماً في الموسيقى العربيّة التي عرفنا منها مقامات الحجاز والصّبا والبيات واللامي والنّهاوند وغيرها .
وفي القصيدة التي أخذت المجموعة منها عنوانَها (مقامُ الضَّبابِ) يتنبأ الشاعرُ بأن الضَّبابَ سيعقبهُ ضبابٌ آخرَ،بعد سبعٍ يباب ،متناصاً مع سورة يوسف في القرآن الكريم، والتناص عند الفاعوري وفي أكثر من موضع في المجموعة يُحيلنا إلى المرجعيات الثقافية الرصينة للشاعر والبيئة التي نشأ فيها في مجتمعه :
« هو الصّبحُ يفتحُ للهاربين َمن الهمِّ
عشرينَ بابْ
وبعضُ الرّواة ِ يقولونَ
إنَّ الرياحَ ستهدأُ عما قريبْ
وماءٌ غريبْ ..
يجيُ إلى الحي ِّ بعد َ سَبعٍ يباب ْ
يُغنّي مَقام َ الضّباب ْ « ص19
ومن مقامهِ في الضَّباب انشغل الشّاعر باستشراف الضَوءِ بحثاً عن حقيقة الوجود، وجودهِ، ووجودِ الآخرين في حياته، والضَّوءُ هنا يُعبرُعنه بأكثرَ من مصدرٍ فمرةً هو (شمعةٌ) كما في الإهداء وأخرى هو القمرُ، ولكنه ليس القمرَ المزهوَ في السَّماء بل هو قمرٌ منكسرٌ ..انكسارَ الشاعرِ نفسِه من جراء الضَّبابِ الذي يحيط به .
« قمر ٌ على وشكِ السقوطِ
وشاعرٌ متناثرٌ
ما بين كأسِ صُداعهِ
وقصيدتين! « ص17
وهو في هذه القصيدة نجدهُ باحثاً عن الضَّوء رديفاً للحياة بعد أن اصفرَّ العشقُ مثلَ العُشبِ، والضوءُ مانحُ الخضرةِ والتي هي رمزُ الحياةِ والتَجدّدِ والذي يسعى إليه الشَّاعر هذا الكائنُ المتوجسُ الحساسُ مما دفعه إلى استشرافِ الموتِ القادمِ الذي سيكلّلُ السَّماءَ بالدُّخانِ بوصفه نقيضاً للضَّوءِ ومعادلاً موضوعياً آخرَ للموت والدّمار:
« خمسون موتاً تستعدُّ الآنَ كي تبني سماءً من دخانٍ
ليس أكثرْ « ص 18
وهرباً من واقع يسودهُ الظّلام والدُّخان نجده في قصيدته (مقامُ الضَّباب) يفتتح القصيدة بالشّمس والتي تعني الحياة َوالحريةَ والأملَ وهي تمزق الظلام وتُشِيعُ الفرحَ بعد الهمّ وتفتحُ عشرين باباً بعد أن تكسِر صمت السَّحاب المقيتِ ..هذا السَّحاب الذي لا يرتجى منه الغيث ، لكنَّ الصُّبحَ المنبلجَ من الشَّمسِ سيكون بالنهايةِ المنقذَ :
« على رِسلِها الشمس ُ تصحو
وتكسِرُ صمت َ السّحابْ
هو الصّبح ُ يفتح ُ للهاربين َ مِنَ الهم ِّ
عشرين َ بابْ ….»ص19
ويعود في مقطعٍ آخر من القصيدة يبكي حُلمَهُ الذي طالَ انتظارُهُ بعد أن ذَبُلت شموعُ الأمل فيه، ولذبُولِها معنىً آخرَ يتمثل بحلول الظّلام وإنعدام الرّؤية بما يعني حلول الضَّباب. وفي القصيدة التي تليها (سُمّاق) يفتتح على الفاعوري القصيدة بالصَّباح وبإشراقة الشَّمسِ الضاحكةِ بإنزياح لغوي وبلاغي جميل أي بوصفها مشرقةً وكأنَّ الشَّاعرَ الذي ملَّ الضَّباب والدُّخان والظَّلام يبتكرُ لنفسه وللوطن نهاراتٍ مشرقةً،
«صباحاً… مثلَ عادتها، لمحتُ الشَّمسَ ضاحكة ً
تغازلُ شَعركِ العاجي « ص27
وفي نهاراته هذه يتوحد الذاتي بالموضوعي، مفاتنُ الحبيبةِ بمفاتنِ الأرض وأشجارِها وعصافيرِها وسمائِها التي تمتدُّ إليه منها أصابعُ النجماتِ لتمرَّ على تفاصيله عَبر رؤيةٍ حُلمية لا يبدّدُها إلا دُخانُ أحلامِه حينما يكون شريانُ قلبهِ التّاجي شالاً للحبيبةِ -الأرض:
« رأيتُ أصابعَ النجمات ْتمرُّ على تفاصيلي
وتجْمَعُني كمصباحٍ تكَسَّرَ ضُوءُهُ الخمري ّ
من شوقٍ وإحراجِ ..لمحت ُ دُخانَ أحلامي
يطاردُ شالَك ِ المشغولَ من شريانيَ التّاجي … « ص28
وتتواصل في قصائد علي الفاعوري اللاحقة ثنائيةُ الّنور والظّلام وكما في قصيدة (حديث الخرافة) حيث الدُّخان والشَّمس وما بينهما من (ظلام،ونجوم، وغمام ،وصباحات، وفجر، ومساء ،وبياض،وشمع يذوب) بصياغة صانع ماهر يبتكر من طين هذه المفردات قيماً للجمال المتمثل في المرأة ،ولكن وفق ثنائياته التي جاءت معكوسة هذه المرة إذ قدّم الدُّخان مفتتِحاً به القصيدة ومنهياً بالشَّمس، والتي بنورها تستكين الرّوح وتطمئن القلوب .
« تقولُ الحقيقةُ:
إنَّ النساءَ سَقَطنَ من الشَّمسِ يوماً علينا
فكان َ الجمال ُ… « ص33
وقي (أوان القصيدة) يستشرف الفاعوري حجم الدَّمار الذي سيلحق بنا داعياً الي التمسك بما تبقى من الحُلم للوقوف بوجه كلِّ هذا الدُّخان والزَّمن الرَّمادي الذي غلَّف المشهد بعتمَتهِ القاتلةِ مما دفع الشّاعر إلى تكرار مفردة الرَّمادي في القصيدة ثمان ِ مرات فيما تكررت مفردةُ الدُّخان أربعَ مراتٍ ليضعنا أمام بانوراما الحروب والضَّياع والعجزالذي أصاب الأمة.
« وقتٌ رماديُ الملامحْ
لاشيء فيه سوى دخانْ
والساعة ُالمجنونةُ الخطواتِ …تحملُنا إلى غبشِ المكانِ « ص34
وبعد هذه الشّحنة الثّقيلة من الظّلمة والدُّخان والرَّماد تختفي الشَّمس في فضاءات الشَّاعر وحتى في قصيدتيهِ (أبي، أمي) لن نجدَ تكراراً للشَّمسِ كمفردة إلا مرة واحدة في قصيدة (أبي) الذي لم يجد الشَّاعر فيها الحاجة إلى استدعاء الشَّمس ليبدّد الظَّلام الذي يحيط به والضَّباب الذي غشيَهُ، بل آثرَ أستدعاءَ وجه أبيهِ لينيرَ له حياتَهُ ويبدّدَ سدوفَ الظّلام:
« ثلاثون َ صيفاً تلاشتْ
ثلاثون نجماً قضى نحبَه ُ
ثلاثون شمساً سَرَت للرّحيلْ
وما زالَ وجهُكَ قنديلَ روحي ..» ص 43
وإذ تختفي الشَّمس في (الكلام المرّ) و(السّكوت المرّ) فإنها تظهر بقوة في قصيدة (الفصول ) في تراتبية الظّهور والاختفاء كرسامٍ ماهر يرسمُ اللّون و نقيضه فالظّلال هي ما تُظهرُ الضَّوءَ تماماً كما في حياتِنا التي تكتنفها فصولٌ من الفرح والحزن والقوة والضّعف والحضور والغياب ومن هنا ولدت مبررات العنونة للقصيدة ( الفصول ) لتأتي معرفة بالألف واللام وكان من الممكن ان تكون(فصول) لكنَّه أصرَّ على تعريفها لتكون متماسةً تماماً مع حياته عَبر فصولها المتعددة والتي سترحل فصلاً بعد فصل باتساق جميل مع حركية الكون من حوله وعدم ثبات الأشياء .
« أبُنيّتي …
هذا الخريفُ المنتشي ببقائه ِلابُد َّ يرحلْ..
وشتاؤُنا المحبوبُ يحمل ُدفئَهُ يوماً ويرحلْ ..
حتى الرَّبيعُ المنتشي بغرورِه حتماً سيرحلْ!» ص 57
إنَّ تناوبَ الفصولِ يكاد يكون هو الآخر معادلاً موضوعياً لتتابع الضَّوء والظّلمة، الشَّمس، والضَّباب، النُّور والدُّخان
« أستميحُ الشَّمس عذراً إن ظللتُ معبأً
ومخبأً في الظّلِّ ألتحفُ الزّوايا « ص54
والضَّوء عند الفاعوري يتجسد في أكثر من قصيدة، في وجه الحبيبة التي يراها شمسا كما في قصيدة (تقدَّمي) بعد ما ملأت قلبه الظّلال استحضر الشَّمس لتضيء له حياته وليهاجر إليها هرباً من ظلام وجعه:
« إنّي إلى كفيكِ أُعلنُ هِجرتي، هل ممكن ٌ
أن يهرب َ الإنسانُ من وجعِ المُحالِ إلى المحال ِ؟!
ياهذهِ الشَّمسُ التي تغتالُ طعمَ قصيدتي
وتذيقُني ذُلَّ السؤالِ « ص68
وفي صداع شجي ومنذ المقطع الأوّل في القصيدة يتدفق الضَّوء ويأخذ شكل وجه الحبيبة أيضاً ، تلك الحبيبة التي أفقدته اتّزانه وجعلته يفرُّ إليها عَبر القصيدة ليحيل ظلام المساء الثقيل إلى نهاراتِ فرح باللقاء ويبثُها بوحَهُ في أجواء حلمية ابتكرها الشَّاعر في ثنائية الضَّوء والظّلمة هرباً من صداعه الذي أورثته إيّاه الحبيبة فآثر أن يسميه شجياً معبراً بذلك عن حبه لهذا الصداع فأستبدل الصّفة الأصلية للصّداع من (موجع، مؤلم ،مقلق ،قاتل، مؤرق، مزعج، رهيب….الخ ) بالشجي تحبباً في انزياحٍ لغوي جميل لتعود ثنائية الظّل والضَّوء في قصيدته (شروق ) والتي تناوب فيها النّهار واللّيل من خلال توظيفه للمفردات الدّالَّة وهي (الصَّباح ،اللّيل،القمر، الضَّوء ، والشّروق ) في إطار سعي الشّاعر الحثيث نحو التجدّد، فالشّروق يعني ديمومة الحياة ولذا فهو يسعى إلى الاستمرار في الحياة متحدياً الانتحار الذي يشكّله البقاء السّاكن فيها .
وهو أذ يترك للدُّخان أن يكتب سيرتَهُ في (مطر غريب) فإنه يراة في الضَّوء أملاً رغم شروق شمسِها الحزينة في قصيدة (المدينة) :
« صباح هذه المدينة المسكينة مُبلّل بلهفة الأمل
وشمسها الحزينة تُطلُّ في خجل
لتنشرَ السَّكينة « ص112
إن على الفاعوري بمنجزه الشّعري هذا انحاز بكلِّ جلاء إلى تحديث لغة القصيدة العمودية باعتماده المفردة السَّلسة وتوظيفها لتعميق المعنى الذي يبتغيه بعيدا عن المفردات القاموسيّة الثّقيلة وهو بذلك يسعى إلى الوصول الى أكبر شريحة من جمهور المتلقين وفق رؤيته، وحتى القافية في قصائده وجدتها تأتي لتكمل المعنى ولم يأتِ بها عنوة لغرضٍ إيقاعيّ فحسب البتة.
كما اشتغل على جماليات التشكيل للصورة الشِّعريّة متجاوزا بذلك محدّدات الشَّطرين والقافية والإيقاع ليرسم لنا صوراً شعرية عذبة على امتداد قصائد الدّيوان مستمداً ذلك من قدرته العالية على الرَّسم وإستخدام الظّل والضَّوء ومما تأثر به من صور ترسخت في لا وعيه لتلحَّ عليه بالخروج متشكلة ً بمعنى جديد قد يكون في بعض الأحيان هو الحجر الأساس، وعليه تعلو أبيات القصيدة المتدفقة تباعاً.
(*) علي الفاعوري، مقام الضباب، (مجموعة شعرية) وزارة الثقافة الأردنية 2018