شكيب كاظم
نعمنا أثناء السنة الدراسية ١٩٧٢–١٩٧٣ بالتلمذة على يدي الدكتور علي جواد الطاهر، الذي كان يدرسنا مادة (منهج البحث)، وكان مقررا كتابه (محمود أحمد السيد. رائد القصة الحديثة في العراق) بطبعته الأولى التي أصدرتها دار الآداب اللبنانية سنة ١٩٦٩.
لقد حاول أستاذنا الطاهر نقل علومه وتجاربه، وما حصل عليه لدى الدرس في فرنسة؛ حاول تطبيقه على طلابه، فكان لا يعبا بمفردة المنهج الحرفية، قدر اهتمامه بجعل الدرس ساحة لتباري الآراء ومناقشة المفاهيم، وكان أزعج ما يزعجه الطالب الذي يحفظ المادة حفظا ببغاويا، من غير شخصية بحثية ومن غير رأي أو تحليل وتعليل.
كان يسعده الرأي المضاد لرأيه، شرط أن يكون علمياً وموضوعياً ومنصفاً، وكان يكره الإسهاب في الجواب، يريد خلاصة وتركيزاً، يدلان على فهم للمادة وعلى شخصية مناقشة ذات رأي.
كان باحثا عن أدباء أو مشاريع أدباء بين طلبته، ولقد لمسنا هذا الكرم الطاهري في الدرجات للطالب الذي يعرف كيف يكتب وماذا يكتب، لم يكن ليزعجه الرأي المخالف، حتى لو كان قاسياً وجافياً. اذكر أن أحد زملائنا (عبيد جاسم محمد العيثاوي) والذي ستأكله الحرب ضابطا احتياطا سنة ١٩٨٦؛ واجهه ونحن في خضم الدرس قائلاً: إنه قرأ كتابه هذا ولم يخرج منه بنتيجة تذكر! لم ينزعج أستاذنا الطاهر، بل ناقشه نقاشاً علمياً، وقد طافت على محياه ابتسامة أبوية حانية.
حتى إذا حان حين الامتحان، جاءتك الأسئلة عقلية فكرية، تشغل عقل الطالب وفكره، ليست بعيدة عن مفردات المنهج المقرر وليست حكرا عليه، يريد من خلالها التعرف على طاقات الطالب وقراءاته وأفكاره، وتكون الدرجة العالية، حصة من عبر عن فكرة وكان ذا رأي ومفصحاً عن شخصية ليتولى الطاهر شحذها والاعتناء بها، كي يقدمها لدنيا الكتابة والبحث، نسغاً جديداً يضاف إلى عوالم الإبداع، وها هي السنة الدراسية تشارف على نهايتها، لابل انتهت لتحرمنا علم الطاهر واستاذيته، لكن ظلت علاقتي الثقافية متواصلة معه من خلال ما يكتب وينشر، هذه العلاقة سبقت تعرفنا إليه أستاذاً في الكلية، إذ أني قرأت كتابات الطاهر منذ سنوات خلت، ولعل من أوائل ما قرأت من كتبه؛ كتابه الأول ( مقالات) الصادر سنة ١٩٦٢،وقد جمع فيه مقالاته الأولى التي نشرها في مجلة (المعلم الجديد) التي كانت تصدرها وزارة المعارف آنذاك بعيد عودته من الدرس في الكولج دو فرانس، وهو ما أفاض في الحديث عنه في كتابه الأكثر أهمية والأكثر تألقا معرفياً وأسلوبياً كتابياً (فصول ذاتية من سيرة غير ذاتية) الصادرة طبعته الأولى عام ١٤٢٥-٢٠٠٤عن الدار العربية للموسوعات، فضلاً عن مقالاته في مجلتي (الأديب) و(الآداب) اللبنانيتين، إذ كان يراسلهما من الرياض، يوم ذهب سنة ١٩٦٣ للتدريس في جامعة الرياض؛ جامعة الملك سعود حالياً، وامضى هناك خمسة أعوام.
إن أستاذي علي جواد الطاهر، الذي جاء النقد من الدراسة الأدبية التراثية، إذ أن متطلبات الدرس في فرنسة لنيل الدكتوراه تتطلب تقديم بحث، فضلاً عن تحقيق مخطوطة، فقدم بحثه ( الشعر العربي في العراق وبلاد العجم في العصر السلجوقي) كما حقق نصوصا شعرية لابن الحجاج مسماة ( درة التاج من شعر ابن الحجاج) وهي أشعار في الغزل المكشوف والمباذل، وقد تعذر نشرها طوال هذه السنوات، وقرأت مؤخرا ما يشير إلى أن دار رياض الريس نشرتها سنة ٢٠٠٤ ولست متأكدا.
أقول إن الطاهر الذي جاء إلى النقد من هذه المضامير، قد انس في نفسه ميلاً للكتابة النقدية، ولم يكن قد ظهر ناقد عندنا في العراق حتى ذلك الوقت، فأصدر كتابه النقدي الرائد (في القصص العراقي المعاصر. نقد ومختارات) نشرته دار المكتبة العصرية في صيدا سنة ١٩٦٧، درس فيه (الوجه الأخر) لفؤاد التكرلي، و(حياة قاسية) لشاكر خصباك، و(غضب المدينة) لمهدي عيسى الصقر، و(مولود آخر) لغائب طعمة فرمان، و(النافذة) لمحمود الظاهر، و(غداً يأتي الربيع) لصلاح حمدي، وإذ سكت صلاح حمدي فلم نقرأ له شيئا غير هذه القصص البسيطة فنياً، ويبدو أن الطاهر قرأها لأفكارها التي ركبت الموجة وتعاطف معها، والدلبل صمته، فربيع الحياة في العراق ذهب، وكذلك تلكأ محمود الظاهر وتكاسل، لمخايل غرور ساورته، واصل الآخرون الكتابة حتى نهاية العمر.
يبدو أن أستاذي الطاهر حدس أن مشروعه النقدي في دراسة قصص الرواد والخمسينيين مافتىء ناقصا، فاثر إتمامه فدرس (نشيد الأرض) المجموعة القصصية الأولى لعبد الملك نوري، اردفها بدراسة لمجموعة (أشياء تافهة) لنزار سليم.
إذا كان بعض الأكاديميين يربا بنفسه أن يكتب في الجرائد، ويرى أن مجاله الكتابة في المجلات المجمعية والأكاديمية المحكمة، فان الطاهر كان يرى أن الجريدة أو المجلة الثقافية العامة، اكثر وصولا إلى القارئ، فبدأ بداية عقد السبعين من القرن العشرين، بنشر مقال أسبوعي في صفحة (آفاق) من جريدة (الجمهورية)،حتى إذا خال في نفسه ضعفا عن المواصلة توقف كي يستزيد، ونشر هذا المنشور بكتاب عنوانه ( وراء الأفق الأدبي) وكان منها مقالات عن الجواهري الكبير، والشاعر والمسرحي والروائي وكاتب السيرة والمقال الجميل يوسف الصائغ، والمبدع الكبير محمد خضير، وكان أستاذنا الطاهر أول من بشر بمواهب محمد خضير، فضلاً عن اهتمام الناقد الكبير الدكتور شجاع مسلم العاني به.
كما حقق الطاهر عددا من المخطوطات، وتحقيق المخطوطات عمل شاق لا يتأتى إلا للعصبة ذوي الأيد والقوة، لا يأتلف مع ما جبل عليه الطاهر من شغف بالكتابة الإبداعية والنقدية والترجمة عن الفرنسية، فحقق ديوان (الخريمي) شاركه في التحقيق الدكتور محمد جبار المعيبد، فضلا عن ديوان (الطغرائي) بالاشتراك مع أستاذي الدكتور يحيى الجبوري، وهو الشاعر الذي حثه على الاهتمام به أستاذه الدكتور محمد مهدي البصير، أيام الطلب في كلية الآداب.
وإذا كان أستاذي النحوي الجليل أبو عبد الإله؛ إبراهيم الوائلي، قد قال للباحث حميد المطبعي، انه سينسى، سينساه القراء والمتابعون، لان أقراني ومن كان قبلي من كبار الشعراء في العراق، قد انتهوا، وانتهت معهم سيرهم ولم يذكركم ذاكر، في حين كان أستاذي الطاهر على الضفة الأخرى، مؤكداً أنه سيبقى مذكوراً، ان ذكري يبقى طويلا وإلى الأبد، ولا شك أنه يتضاءل على الزمن، ولكني اشك أنه يندثر، ولعل احتفاءنا بالطاهر هذا الضحى مصداق لقولته ونبوءته.
وإذا كانت الغزلان الرهيفة الرقيقة تبكي في حضرة الموت، ايا كانت صورة الموت هذه، فان الطاهر كان يبكي وهو يرى من يفد إليه لعيادته أيام مرضه الأخير سنة ١٩٩٦، استشعاراً بدنو الرحيل، لقد كان رهيفا رهافة الغزلان وهي تفجع بالنهاية المحتومة.
حاشية
نص الحديث الذي قرأته في جلسة الاستذكار التي عقدها بيت المدى للثقافة والفنون بشارع المتنبي في بغداد ضحى يوم الجمعة ٧من شعبان ١٤٤٠– ١٢ من نيسان/ إبريل ٢٠١٩،للناقد الدكتور علي جواد الطاهر، وأدارها الباحث رفعة عبد الرزاق محمد، تحدث فيها تباعا: الدكتورة نادية غازي العزاوي، والدكتور شجاع مسلم العاني، والدكتور محمد حسين آل ياسين، وشكيب كاظم سعودي، والباحث حسن عريبي الخالدي، والدكتور علي حداد، والدكتور داود سلمان العنبكي.