في كتابه المعروف “تخليص الابريز في تلخيص باريز” نقل لنا الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي جوانباً مهمة من تجربته كمشرف على أول بعثة علمية شدت رحالها الى فرنسا لغرض الدراسة بامر من والي مصر آنذاك محمد علي باشا (في العام 1826). ومن أهم الأسئلة التي شغلته وهو يقارن بين ما وصلت اليه فرنسا من تطور وازدهار والحال المزري الذي انحطت اليه مصر وباقي المضارب المتجحفلة معها بعقائد وسرديات الركود هي؛ لم لا نتعلم..؟ من خلال دراسته وتعلمه اللغة الفرنسية نقل لنا ذلك الشيخ المتنور الكثير من المعارف والخبرات التي شكلت لاحقاً بوابة للانفتاح على ما يحيط بنا من حراك ونشاط علمي وقيمي بعد انقطاع طويل. وفي احدى التقاطاته المهمة يقول: (ان أحكامهم القانونية ليست مستنبطة من الكتب السماوية، لكن دستورهم فيه امور لا ينكر ذوو العقل انها من باب العدل…). مثل هذه التساؤلات شغلت اهتمام خيرة عقول ذلك العصر فالكاتب اللبناني المقيم في مصر جرجي زيدان على سبيل المثال لا الحصر، واصل مهمة التنقيب حول علل تطور وازدهار الغرب وبالمقابل علل انحطاط وتخلف العرب، وبعقله المتوثب ومنهجه النقدي ازاح الغبار عن غير القليل من عتمة المشهد في عصره. كانت بدايات واعدة تبلورت اكثر مع الامام محمد عبده ونزعته الحداثوية وطه حسين وبحوثه الجريئة وباقي القافلة التي عزمت على ترك الركود والجهل والخنوع ومستنقعاته التشريعية والقيمية.
بعد ذلك ما الذي حل بتلك البدايات التدشينية، والتي تزامنت وزحزحات مماثلة في بلدان اخرى، مثل اليابان وايران، والتي صنع كلا منهما مصيراً مختلفاً، ففي ايران تم اجهاض مشروع النهضة بعد اغتيال مهندسها رئيس الوزراء أمير كبير (1807-1852) بيد قوى الردة والظلام، وفي اليابان شقت تلك التطلعات طريقها الى ما يعرفه العالم عن اليابان والتي لا تتجاوز مساحتها ثلث مساحة مصر، وثرواتها الطبيعية أقل مما تمتلكه بلاد النيل والاهرامات، والتي أمسكت بتلابيبها الردة الحضارية لتعيدها الى هموم القرن السابع الهجري واهتمامات ما قبل البعثة العلمية المصرية وانشغالات امامها الشيخ رفاعة الطهطاوي. تلك السيرة الواعدة وما رافقها من تساؤلات مسؤولة وشجاعة انقطعت، لا في مصر وايران وحسب بل في غالبية مضاربنا المنكوبة بثوابت الركود والخنوع وركائزها التي صمدت امام رياح الحداثة القشرية والعابرة.
أما في العراق فهذه السيرة (الحداثة) لم تنقطع وحسب، بل ولجت الى نهايات مأساوية، دشنت بسلسلة من المذابح الوحشية بحق خيرة ما انجبته هذه البلاد من زعامات وطنية وحضارية وملاكات في شتى الحقول والاهتمامات، لتنتهي بالحروب العبثية المدمرة والطويلة والتي انحطت بنا الى ما نحن عليه اليوم من هوان وعجز وتخلف وتشرذم، تعجز عن نسجه أكثر المخيلات تشاؤماً وسوداوية. في هذا البلد الذي شهدت تضاريسه الجغرافية والمادية والقيمية قبل أكثر من نصف قرن؛ توهجاً لا مثيل له لقيم وافكار الحداثة، وضعته على رأس البلدان الواعدة في هذا المجال، نجده اليوم يقف عاجزا ومكتوفاً أمام زحف واكتساح قوافل وشيوخ عصور ما قبل المغفور له كوبرنيكوس. ليس هذا وحسب بل نجد صناديقه ومع كل دورة انتخابية، تعيد تجديد الثقة بكتل وجماعات أشهرت افلاسها النظري والعملي منذ زمن بعيد. لا سبيل لانتشال مشحوفنا المشترك من هذه المتاهة الا عبر استئناف سيرة عرفنا قدرها بعد وقوع الفاس بالراس..
جمال جصاني
سيرة وانقطعت
التعليقات مغلقة