من سوء حظ شعوب هذا الوطن ان تتحول نعمة تحرره من أبشع وأحط نظام شمولي عرفه تاريخ المنطقة الحديث ربيع العام 2003؛ الى ما يشبه النقمة. عندما تلقف مقاليد ادارة وفرهدة ثرواته ونهش تطلعاته المشروعة، نوعا من المخلوقات والجماعات تركد في قعر اهتماماتهم ما يفترض انها المهمة الاساس للسياسي والمثقف والاعلامي؛ أي خدمة الشأن العام. وما زاد طين هذه النقمة بلة هو الدور الذي قامت به غالبية وسائل الاعلام وبنحو خاص ذلك العدد الهائل من الفضائيات التي طفحت على موجات الأثير الوطني. فضائيات قدمت للعراقي المنهك والخارج تو من عقود من التجهيل والمسخ المبرمج؛ أسوأ وأقبح ما لدينا من اكاذيب وأضاليل وخطابات مشوهة ومنحطة ولغة هابطة، عبر نفخها وترويجها لمخلوقات هي “نكرات من الناحية النظرية ولا فائدة ترجى منهم من الناحية العملية). من دون أدنى وجع من قلب أو ضمير يضخ (ضيوف ونجوم تلك الفضائيات) سيول من الاكاذيب والتحليلات السطحية التي تعكس ضحالة ثقافتهم وسيرتهم وتجربتهم العملية والشخصية، مخلوقات لم يعرف عنها قبل 2003 انها قد أقدمت او تجرأت في الاعلان عما يشير الى وجودها على قيد الآدمية، ليس هذا وحسب بل نجد غير القليل منهم من المتورطين فيما مارسته اجهزة النظام المباد من انتهاكات وأعمال لتشويه الانسان ومسخه.
حال الفضائيات هذه يعود الى ما آل اليه وضع الثروة في العراق زمن النظام المباد وبعده. فالقسم الاكبر منها ذهب وعبر عقود من الهيمنة المطلقة لـ “اوباش الريف وحثالات المدن” الى حاشياتهم وخدمهم، وما تبقى من أسلاب تلاقفته قوارض حقبة الفتح الديمقراطي المبين. من هذا الاستقطاب للثروة، ما الذي يمكن أن ننتظره من الفضائيات الممولة منهم ومن الاموال العابرة للحدود الوطنية، غير ما نشاهده اليوم من كوارث وجرائم بحق هذه المهنة النبيلة (الاعلام) والتي وجدت كي تتقصى الحقيقة والمعرفة لمجتمعات أضاعت “صول جعابها” منذ زمن بعيد.
لا يتناطح كبشان على نوع وضحالة الوعي والذائقة لقطاعات واسعة من المجتمع، بعد ذلك الاغتراب الطويل عما يحيط بهم، وما فقدوه من حريات وحقوق، وما انحدروا اليه من مستويات متدنية في العيش تفتقد لأبسط مقومات الحياة الكريمة. هذا الارث من الحطام البشري والقيمي هو ما استثمرت فيه غالبية الفضائيات والمنصات الاعلامية التي اشرنا اليها، وما هذه الديمومة لحالة الانحطاط العام التي نعيشها (جماعات وأفراد ومؤسسات وتنظيمات) الا نتاج لمثل هذه النشاطات المدمرة، وفي المقدمة منها ما تضخه هذه الشبكات الاخطبوطية من الفضائيات والاذاعات وما يتجحفل معها من منابر ورقية وسمعبصرية.
لذلك ومع استمرار تدفق مثل هذه السموم المعرفية والقيمية والجمالية، عبر وسائل وجدت اصلاً لمواجهة مثل هذه السموم والفضلات التي خلفتها عصور العبودية والخنوع والظلام، ستبقى وعود وشعارات الاصلاح والتنمية والتغيير وغير ذلك من تطلعات مشروعة مجرد ديباجات ويافطات تثير السخرية والشفقة. ما لم يتم الالتفات الى ما يحصل في هذا الحقل الحيوي (الاعلام وأشده فتكاً الفضائيات واخواتها) لن نتمكن من تفكيك حلقات الحصار والتعتيم المحكمة حول جميع تفاصيل حياتنا، ولن تتمكن الأجيال الحالية والمقبلة من الوصول الى حيث المعلومة والفضول المعرفي وكل ما له صلة بصناعة الحياة والجمال بعيداً عما تضخه “فضائيات” وضعت نصب عينيها ضخ واعادة تدوير مخلوقات وعقائد الضحالة واللصوصية والتشرذم..
جمال جصاني
ما الذي تضخه الفضائيات..؟
التعليقات مغلقة