فاروق مصطفى
(مرافئ ضبابية) مجموعة شعرية للشاعرة الكركوكية (منور ملا حسون) يتصدرها إهداء مكرس الى بعلها وولديها وابنتيها .. وهذا الإهداء مدخل قرائي صالح الى عالمها الشعري لأنها لا تريد أن تترك وحيدة في رحلاتها وأسفارها بين متاهات المرافئ الضبابية، الزمان خطّ ذبوله ودبّ البوار في محيطها وهي بحثا ً عن زهرة الكيمياء تريد أن تهديهم نبضَ حنينها وارتعاشات لهفتها لمواسم لعلّ الإزهرار يعود اليها من جديد.
لا أذكر متى بالضبط تناهى اسم شاعرتنا (منوّر) الى مسامعي، أعرفت الإسم عن طريق كتاب (تسعة شعراء من كركوك) أم عن طريق جريدة (صوت التأميم) وربما عن طريق أخي الدكتور (فائق مصطفى) الذي حدثني عن إحدى مشاركاته في مهرجان المربد وكيف التقى هناك بالشاعر الراحل (قحطان الهرمزي) والسيدة (منور) أو عن طريق محادثات الأصدقاء الأدبية والأسماء النسوية التي كانت تتألق في فضاءات كركوك.
وبمرور الأيام أصبحتُ وكأنني أعرف هذه الشاعرة، بل أعرفها من سنين طوال، ثم جاء إصدارها (مرافئ ضبابية) هذا الكتاب الذي وصل الى العديد من معارفي وأصحابي وتصافحت معه أيد ٍ كِثار إلا يدي، وطال انتظاري له إلا أنه بدا مثل الزائر الذي لا يجيء ولم يأتِني إلا في طبعته الثانية، بعد أن تضببتَ في تلك المرافئ التي يغطيها الضباب. وإن الشاعرة تعلم أنه لا شيء هناك دون طائل. فلهذا فهي تمضي في طريقها بحثا عن جمرة الثلج، ولكنها عندما يصيبها الكلال تأوي الى ذاتها، ويا لحزنها تجد اللبلاب فيها يفتقد شرفته كي يتسلقها و يتعرشها .
تقول في نصها (مرافئ ضبابية) وفي مقطعه الأول:
« أعود الى ذاتي أحتضنها…!
لكن.!! ماذا …لو؟!
ماذا لو واجهني
اللبلابُ فيها
وهو يموت حسرة
من دون شرفة يتسلقها؟! «
الشاعرة (منور) مستهامة بعالم الألوان فهي تلون الأشياء، تلون المشاعر، تلون الجماد وبهذه الألوان تثري عوالم قصائدها، فأنا معها أهتف في المقطع الثالث من النصِّ عَينه ِ:
« إذن. !! من أين يحاصرنا الجوع
أيها الفقراء ؟!
ما دام لجوعنا لونٌ أسمر
كلون ثرى وطني. ؟! «
لقد شاع في الشعر العراقي الحديث تعاطي الألوان وتلوين المفردات بالحزم اللونية. وقد ظهر هذا جلياً عند السياب والبياتي وسعدي يوسف وشاعرتنا هي الأخرى تذهب وراء فراشات الألوان، تريد اقتناص أجملهن ثم تمنح هذه الألوان لكلماتها، فهناك تزهر وتضوع، تقول:
« قوافينا التي تخصّنا
ترانيم وألحان من عطرنا..
وإنّا مثل القزح
يهب الكون كلَّ الالوان. «
ولا يخفى على الناظر في نصوصها، فإنها هائمة باللون الأخضر. وقد أسلفت في هذا الموضوع في مقالة كتبتها عن مجموعتها الثانية الموسومة ب (طلاسم العطش) وحتى هي في مجموعتها التي نحن بصددها، تجري وراء هذا اللون الذي تيَّمها، حيث يهيمن على تشكيلات مناخاتها، فهو يُعدُّ بمثابة المعادل الموضوعي لما حلَّ من البَوار، وأحاط الجفاف ُ والمَحلُ بمحيطها الذي تعيش فيه، فغدت وتاقت الى الغيوم السَّمْحاء التي تعيد النماء الى قلب الأراضي القفر.
« والقصص الحبلى بألف معنى
كمطر يتساقط أخضر َ قطرة ً قطرة
من غيمة خضراء
عاهدت أن تغسل أيامنا الضيابية «
عهدي بالشاعرة الغضب ينزف في قلبها، لأن اللبلابَ حزينٌ يَحِنّ الى شرفته المهدمة والحدائق تشكو اليباس الذي دبَّ في أشجارها والذبول الذي أمات أزهارها والكهاريز هي الأخرى تتلهف الى معانقة مياهها.
لو عدنا الى نصها المعنون ب (لك ولأجلك) فتعاطت تلوين (جزر خضراء) و(مطر اخضر) و (هلال أخضر) و (بحر أخضر) و(شعر أخضر) وأعتقد جازما بأنه يصح ان تتوج شاعرة للاخضرار وباذرة الإزهرار في كلّ الأمكنة التي أمْحَلت وعششَ فيها اليباس.
وفي نصها الذي وسمته ب (ينابيع ملونة الأسرار) اشتمل على ثمانٍ من المقاطع الومضية، مقاطع قصيرة ولكن يشوبها التكثيف، وتقدم نفسها بغنائية عالية وتكشف لنا عن بوح كلماتها وما تكتنز فيها من معاناة وما تتكبد من أوجاعها المستمرة لتضعَ لنا جمال كلماتها، تقول:
« قبل أن يتفجر العسل
في شفتي..
جمعتَ كلماتي،
ونسجت منها
سمفونيةً لم تسمعها
أذنُ أحد بعد ..! «
وفي حقائب الشاعرة المزيد من أوراقها المنتظرة، لأنها ما زالت مستمرة في رحلتها الشعرية وهي شاعرة هيام جوالة تطوف مرافئ الأيام لتعود لنا وهي محملة بأشعارٍ جديدة مغتسلة بأمطارها الخضراء، يبرق فيها ضَوع ُ الجزر الغريبة وشوق السفائن في الإبحار نحو الآفاق البعيدة.