كل هذا القهر والضيم وسلسلة الهزائم التي رافقت شعوب هذا الوطن القديم، وما زالت قوافلهم تغذ السير على خطى العقائد والسرديات المسؤولة عن كل هذا الحضيض الذي انحدروا اليه. وكأن كل ذلك الجحيم الذي خاضوه لم يكن كافياً كي يقنعهم بضرورة القطيعة وذلك الارث المميت، الذي يزوق ويزين ويسوق لهم مآثر الماضي من دون خلق الله.
لن نجافي الحقيقة والانصاف عندما نقول ان غالبية سكان الارض بما فيهم المبتلون بعلة بطء التفكير، لن يختلفوا على أمر الدولة الحديثة بوصفها اساس تطور الشعوب والامم وازدهارها المادي والقيمي. هذا الاساس (الدولة الحديثة) هو ما اخفقنا في التأسيس له، واسس بالتالي لكل هذه الهزائم التي تجرعناها لما يقارب مئة عام من تاريخنا الحديث (1921-2019). طبعاً هذا لا ينفي وجود مساع فردية ومحاولات وكتابات تطرق أبواب هذا الملف الاكثر اهمية في رسم مصير العراقيين بين الحين والآخر، لكنها تبقى محدودة وضئيلة التأثير على مسار الاحداث.
مشروع الدولة الحديثة وكي يتحول من امكانية الى واقع يستلزم وجود شرطان لا مناص منهما وهما (فلسفتها وملاكاتها) وهذين الشرطين ليس لم ينضجا وحسب بل، نجد القوى والكتل المهيمنة على المشهد الراهن، أبعد ما تكون عنهما. فما تعتمده غالبيتها من عقائد ومتبنيات لا علاقة لها بروح الدولة الحديثة وفلسفتها، وان اشارت تحت ضغط الاضطرار الى مفاهيم حداثوية من قبيل الدولة المدنية والتعددية والديمقراطية، فلا تعدو أكثر من تكتيكات ومراوغات للوصول الى السلطة والنفوذ والامتيازات، وهذا ما حصل معنا تماماً بعد الفتح الديمقراطي المبين، عنما افرغت المنحة الاممية (اسقاط الدكتاتورية والتأسيس لنظام اتحادي ديمقراطي) من مضامينها وقيمها الحضارية المجربة.
ولم تنحصر المصيبة بنوع العقائد التي تتبناها هذه الكتل والجماعات، فالشرط الآخر من عنوان مقالنا لا يقل فتكاً عن الشرط الاول (الفلسفة) فنوع الملاكات التي اقحمتها (الكتل والجماعات واجنحتها الاقتصادية والعسكرية) في ما تبقى من اسلاب الدولة ومؤسساتها، جعلت من العراق عينة لا تقدر بثمن لتجارب واستطلاعات ودراسات وتقارير منظمة الشفافية الدولية..!
ان استمرار مسلسل الخيبات وانسداد الآفاق أمامنا كعراقيين من شتى الرطانات والانحدارات، لا علاقة له بما يشاع عن مؤامرات الاعداء ودسائسهم وغير ذلك، من شماعات العاجزين عن مواجهة التحديات الواقعية التي تواجههم، وعلى رأسها امتلاك شروط وجود الدولة الحديثة والكفيلة في انتشال مشحوفنا المشترك من متاهته وورطته المزمنة.
لقد برهنت الطبقة السياسية الممتدة على تضاريسنا من الفاو لزاخو ومن دون استثناء؛ عن غربتها وتنافرها وكل ما يمت بصلة لما أشرنا له من شروط، لذلك نجدها تلجأ غالباً الى تغيير الوجوه بالجملة مع كل دورة انتخابية، من دون احداث اي تغيير جدي في توجهاتها الفكرية والسياسية وهرم زعاماتها وما يحف بها من حبربش حزبي وسياسي واجتماعي وقيمي. وهذا ما تؤكده بقوة ما نضح عن آخر دورة انتخابية من معطيات وصلت الى مستوى الفضيحة، بعد ان عجزت هذه الكتل والجماعات في الوصول لحلول لا للمشاكل الاقتصادية والتشريعية المزمنة (والعياذ بالله) بل لتشكيل الكابينة الحكومية، ونحن على أبواب انتهاء الفصل التشريعي الاول للبرلمان العتيد. يقول ماكس فيبر: (من دون عمل سياسي حقيقي خاضع لأدوات العقل، فان ادارة الشأن العام ستفشل وتضيع بذلك مصالح الجميع…).
جمال جصاني
الدولة.. فلسفة وملاكات
التعليقات مغلقة