لم يمر وقت طويل على ظهور شبح اول دبابة أجنبية على احد جسور “دجلة الخير” حتى تبخرت جميع مظاهر ما كان يعرف بـ “جمهورية الخوف”. تبخرت (الدولة-العصابة) ولم تجد القوات الاجنبية أي جنرال عراقي او قائد سياسي، كي تتفاوض معه على وضع البلد المستقبلي والبدائل المقترحة عن النظام المباد ومؤسساته التي تبخرت وحوسمت بشكل صادم ومريع. وكما هو الحال غالباً في مضاربنا المسكونة بالاكاذيب والأضاليل، تم تزييف ما جرى في تلك اللحظة المفصلية من تاريخ العراق الحديث، بهمة الماكنة الاخطبوطية الضخمة من حطام الكتبة والسدنة والاعلاميين والمثقفين المعطوبين وحاملي العناوين العلمية الرنانة والمقرونة بسيرة مثقلة بالذل والتواطؤ والخنوع، زمن الهيمنة المطلقة لزمرة “المنحرفون”.
ومن يتابع كثبان الكتابات والبرامج والخطابات والاطاريح “العلمية” التي دونت حول تلك المحطة المهمة (زوال النظام المباد وتبخر مؤسساته العسكرية والمدنية والحزبية والنقابية وباقي الجيوش الجرارة التابعة له) سيجدها تتمحور جميعها تقريباً حول اكذوبة امتلاك العراقيون لدولة حديثة ومؤسسات رصينة، أطاح بها الاحتلال الغاشم والذي عبرت قواته المحيطات مستهدفة ذلك الصرح الحضاري “جمهورية الخوف” والذي شيدته سواعد اكثر قوافل قطاع الطرق ضحالة ودونية..؟!
مما لا شك فيه فان زمن تلك العصابة قد ولى من دون رجعة (حقيقة لا تطيقها سلالات الفلول)، غير ان القوم وبالرغم من مرور أكثر من خمسة عشر عاماً على ذلك الحدث التاريخي والحاسم، ما زالوا عاجزين عن التأسيس للمشروع الذي أخفق فيه العراقيون طوال قرن كامل من تاريخهم الحديث، أي امتلاك الدولة الحديثة والتي تنتقل بمجتمعها الى عصر (الامة الدولة) والمواطنة بعيدا عن خزعبلات القرون الوسطى وما قبلها من قرون وهلوسات عفا عليها الزمن والعقول الراشدة. هذا العجز والفشل المستمر في الانتقال من اصطبلات الفرهدة والضحالة، والاصرار على اعادة تدوير سدنتها واجيال جديدة منها؛ يحتاج الى شجاعة المواجهة لا تقنيات النعامة في مواجهة التحديات والاخطار وفزعات الهروب الى الامام، نحتاج الى همة وارادة ومواقف حازمة ومسؤولة، وبنحو خاص مقابل هذا الحطام الهائل من البشر والقيم المصرة على اعادة تدوير سردياتنا المثقلة بالاكاذيب والأضاليل.
مع مثل هذه الطبقة السياسية والتي تعتصم غالبيتها بارث (الفرهدة والضحالة)؛ لا يمكن انتظار اية خطوات فعلية للتغيير والاصلاح، بل على العكس تماماً حيث احكمت الاجواء والمناخات الطاردة لكل ما هو سليم ومعافى قبضتها على مختلف مجالات الحياة المادية والقيمية، ولا يحتاج المتابع الحصيف الى جهد كبير كي يكتشف نوع المخلوقات المستلقية على سنام المواقع والمسؤوليات في هذا الطور الجديد من عصور الفرهدة والضحالة. كل هذا ويتسائل البعض عن سر كل هذه الجرأة لفلول النظام المباد وحطامه في الاعلان عن عشقهم وحنينهم لزمن الأب المؤسس لعصور اللصوص وقطاع الطرق وارث الرسائل الخالدة. فشل لا مثيل له في تقديم الضد النوعي للنظام المباد، شرع الأبواب لكل هذه القوافل من المشعوذين واللصوص كي يشغلوا خلف واجهات مبتكرة وجديدة، مساحات الفراغ الذي تركه لهم ذلك الكائن الخرافي الذي انتشل مذعوراً من جحره الاخير. وخير دليل على تبعيتهم لذلك الارث هو همومهم واهتماماتهم وشعاراتهم التي لا تحيد عما نثرته الرسالة الخالدة من سبل وممارسات وفزعات وسلوك…
جمال جصاني
الفرهدة والضحالة لا تبني دولاً
التعليقات مغلقة