لما لهذه الآفة (الفساد) من تأثيرات فتاكة على حياة البشر بكل تجلياتها ومستوياتها، اقرت الجمعية العامة للامم المتحدة يوماً عالمياً لمكافحة الفساد هو التاسع من شهر كانون الاول من كل عام. وبالرغم من أهمية هذه المناسبة لبلد مثل العراق يطفو على محيطات من هذه الآفة، التي لم تكتفي بما تبقى من حطام مؤسسات الدولة وطفح القطاعات الاقتصادية الطفيلية التي بسطت هيمنتها على اساسيات الحياة، بل تسللت الى تفاصيل حياتنا (افرادا وجماعات)؛ الا انها (المناسبة) مرت بنا وهي تسير على اطراف أصابعها، كي لا تعكر مزاج اخطبوط الفساد وشبكاته وحيتانه الشرهة والمتصدرة للمشهد الراهن. لقد تابعنا جميعاً ما آل اليه مصير ذلك الكم الهائل من التشريعات والمؤسسات والهيئات، التي اسست من اجل مواجهة ومكافحة تلك الآفة، وكيف تحولت تدريجياً الى عبء اضافي على تلك المعارك التي اقتفت أثر طيب الذكر دونكيشوت وفتوحاته بمواجهة طواحين الهواء.
لن نجافي الحقيقة والانصاف عندما نصطف الى جانب المتشائمين واليائسين تماماً، من امكانية حدوث مواجهة جدية لهذه الآفة على المدى المنظور. لان جميع المعطيات والبيانات والأرقام تشير الى تمكن قوى الفساد ومنظومته القيمية من فرض لا هيمنتها في الظرف الحالي وحسب، بل نجحت في وضع المعايير والاسس والبنى لبقاء هذه الهيمنة وتمددها الى أمد غير محدود. لقد وصل بنا الحال (شعبياً ورسمياً) الى اعتبار من يندفع حقاً لمكافحة هذا الوباء، بأنه شخص بطران وبعيد عما يحيط به من مناخات وشروط ومتطلبات للعيش تحت وصاية الفساد وسدنته.
هناك تعريفات عديدة لمعنى الفساد وتجلياته المختلفة في شتى الميادين الاقتصادية والادارية والسياسية والقيمية وغيرها، ووفقاً لمعجم اكسفورد: (هو انحراف أو تدمير للنزاهة في اداء الوظائف العامة، من خلال الرشوة والمحاباة..) ويعرف أيضاً بانه (اساءة استخدام السلطة) وفساد البيانات والمعلومات، وغيرها الكثير، لكنني وجدت هذه العبارة المحلية أكثر قرباً لعلل حالتنا وهي: (أخذ المال ظلماً من دون وجه حق) فهي تختزل لنا تاريخ طويل من الفساد واللصوصية والاجرام.
حيث اكتساب المال وتراكم الثروة يتم غالباً في مضاربنا المنكوبة لصالح قطاع الطرق، عبر البطش والظلم وبسط هيمنة اللصوص الأشد همجية وضراوة، لا عبر انتاج الخيرات المادية والقيمية وخوض مضمار العمل والخلق والابتكار، كما جرى مع المجتمعات والدول التي اكرمتها الأقدار بالتحرر من مستنقعات العبودية واذلال الانسان لاخيه الانسان.
لقد تزامنت هذه المناسبة الاممية (اليوم العالمي لمكافحة الفساد) ومناسبة وطنية هي (يوم النصر) أي الانتصار العسكري على عصابات داعش وتحرير التراب العراقي. وكل من يهتم بالشأن العراقي وبنحو خاص بعد زوال النظام المباد؛ يعرف تماماً ان ظهور داعش وقبلها القاعدة وغيرها من الفصائل والمافيات والعصابات والجماعات المسلحة والمنفلتة؛ لم يكن ممكناً لولا المناخات والشروط والحاضنات التي وفرتها آفة الفساد لهم في شتى الحقول والمجالات، لذلك سيبقى الانتصار هشاً وعابراً من دون وجود ارادة وطنية حقيقية وجادة لمكافحة الفساد، وهذا ما لم نجده على ارض الواقع. أما الشعارات والفزعات الفاشوشية لممثلي الكتل المتنفذة وادعاءاتها الزائفة بالضد من الفساد ومشاريعها وخططها لمواجهته، فهي لا تضيف سوى المزيد من الغرائبية لمتاهتنا الراهنة، والتي تنتظر المزيد من الضياع مع كل دورة انتخابية…!
جمال جصاني
ما الفساد..؟
التعليقات مغلقة