لماذا يكذب القادة-حقيقة الكذب في السياسات الدولية، عنوان كتاب صغير يقع في مئة صفحة، اضافة الى ملحق من ثلاثين صفحة يتضمن ملاحظات وتحليلات.
من المرجح ان يعود سبب صغر حجم الكتاب-بالرغم من الدراسة المعمقة-الى ان الكاتب البروفسور جون ميرزهايمر، لم يتوصل الى الكثير من الامثلة التي تبين كذب الحكومات فيما بينها. الامر الذي لا يعد مفاجئا، لان التواصل الدبلوماسي بين الحكومات يعتمد السرية والامانة وليس مبدأ الحوار الديمقراطي المفتوح. وبالرغم من ذلك، فأننا نعلم جميعا بأن بعض الحكومات او بالأحرى قادتها، قد كذبوا بشكل علني على حكومات اخرى سواء كانت معادية ام صديقة.
وقد عمل الصحفيون والمؤرخون على كشف اكاذيبهم في الافلام، والمؤلفات والاعمال الوثائقية التي ولدت القناعة لدى نصف سكان العالم، بأن الكذب في العلاقات الدولية قد تحول الى عادة عصرية، كما اظن. وقبل ما يقارب اربعة قرون اشار دبلوماسي بريطاني الى ان السفير» هو رجل امين، يوفد الى الخارج كي يكذب من اجل مصلحة بلده.»
ميرزهايمر لا يتفق مع مثل هذا القول. وهو يعرف العشرات من الامثلة بشأن الكذب بين الحكومات، لكنه يذهب الى الاستنتاج بأن الامر غير مألوف، لان التكاليف المترتبة على الكذب، في الغالب اكبر من المكاسب المتحققة منه. وعندما طلب من زملاء اخرين تزويده بأمثلة يعرفونها، وعده الكثيرون على الفور بالإجابة، لكنهم سرعان ما وجدوا أنفسهم مضطرين للاعتذار لقلة توفر الامثلة على الكذب بين الحكومات. وهو بذلك يستنتج بأن القادة السياسيين غالبا ما يكذبون على شعوبهم أكثر مما يكذبون على حكومات أخرى، وكذلك بأن قادة البلدان الديمقراطية يكذبون اكثر على شعوبهم من قادة الدول الدكتاتورية!
ميرزهايمر رجل اميركي، ويتضح لي من خلال ملاحظاته بأنه لا يجيد غير الانجليزية، اي انه لا يجيد الفرنسية، الاسبانية او الروسية، ناهيك عن العربية او الصينية. ما حجم المعرفة اذن الذي من الممكن ان تتحصل عليه بوجود العائق اللغوي؟ أخشى ان لا يكون كبيرا، فهنالك ما يقارب المائتي دولة، وكثيرا ما يقوم السفراء ووزراء الخارجية السابقون بالكشف عن الحقائق في مذكرات ومقابلات تلفزيونية تتم باللغات المحلية. لا اظن بأننا نذهب بعيدا عندما نقول بأن الدول التي تختلف كثيرا فيما بينها بتاريخها واعرافها الاجتماعية وبثقافاتها السياسية والقوانين التي تتحكم بسلوك قادتها، لابد ان تكون لها اسبابها المتباينة والمتنوعة في الكذب على الدول والحكومات الاخرى.
الاهتمام بالوضع العراقي
يبدو ان ميرزهايمر يعتقد، لامحالة، بأنه يستطيع ان يستنتج حقائق شاملة من خلال الامثلة المتوفرة عن الكذب بين الحكومات من خلال الامثلة الاوروبية والاميركية المتوفرة عن الكذب بين الحكومات خلال القرن ونصف الماضية. وقد نشك بإمكانية ان تنسحب هذه الحقائق على العالم كله، لكن ما يستنتجه ميرزهايمر من هذه الامثلة مثير للاهتمام. الكتاب يحتوي بالنسبة للقارئ العراقي على معلومات قيمة، فالكاتب مهتم جدا بالاحتلال الاميركي للعراق.
قبل احتلال العراق في 2003 عمد الرئيس الاميركي السابق جورج بوش وموظفوه الى الترويج للكثير من الاكاذيب، كما نعرف الان، الامر الذي جعل من تسويق «الحرب الوقائية» بتلك الطريقة مثالا كلاسيكيا يشجع بالأخص على عدم الكذب بذلك الشكل.
يذكر المؤلف في 15 صفحة الاكاذيب التي تم ترويجها قبل الاطاحة بالنظام السابق. وهو يقول بأن الشعوب لا تعاقب قادتها على الكذب، الا في حال كانت العواقب سيئة، مستشهدا بالصحفي ريتشارد كوهن من الواشنطن بوست الذي كتب في 2005: لقد كان الشعب الاميركي سيسامح الرئيس بوش ربما على شنه الحرب تحت ذرائع كاذبة او واهية، لو ان النتيجة كانت ستقود الى شرق اوسط اكثر ديمقراطية.»
انواع الكذب
هنالك اشكال ومستويات عدة من الكذب بين الحكومات والدول. هذه الاشكال تتعلق بالكذب كما نعرفه في حياتنا اليومية و»بالقليل من الكذب» كما يحدث في حالات التحايل، التبجح والمواراة والتلفيق (الروايات التي تعتمد التشديد على معطيات معينة وربطها بشكل يصب بمصلحته مع التغاضي بالوقت نفسه او التقليل من شأن معطيات اخرى سلبية).
الفاصل بين هذه الاشكال قد لا يكون جليا، كما يعترف ميرزهايمر. لكنه مع ذلك يشير الى التفريق بين الكذب الصريح، وزرع الخوف، واستراتيجية التستر (التستر على فشل عسكري او قادة غير كفوئين) وخلق الاسطورة القومية (مثل الاكاذيب التي تروج لانتصارات عظيمة في الماضي لا وجود لها) والاكاذيب الليبرالية (مثل الادعاء باحترام الحكومات الدائم لمعاهدات جنيف) واكاذيب من نوع «طبقية» لا تصب في الصالح العام، وانما تخدم طبقة بعينها في المجتمع. واخرا وليس اخيرا يتطرق الكاتب الى نوع اخر من الكذب هو التستر على الفضائح الغاية منه قد تكون مثلا الفوز بالانتخابات المقبلة.
من أجل المصلحة العامة
يبحث ميرزهايمر في الانواع الخمسة الاولى من الكذب «التي تكون غايتها المصلحة العامة للبلد» وهذه الانواع من الكذب يمكن الدفاع عنها استراتيجيا بغض النظر عن النتائج. وهو يكرر المعتقد القديم بأن الدول في حالة عداء تعيش في عالم فوضوي، عالم من دون اصدقاء دائمين او ضمانات. وهو يتفق مع الرأي القائل بأن احيانا «من واجب القائد الكذب» حماية لمصالح بلده. فيما يحذر في الوقت نفسه من انعدام فاعلية الكذب غالبا في العلاقات الدولية، مع ما تحمله من مخاطر كبيرة «الاكاذيب تقوض الوضع الاستراتيجي للبلد أكثر مما تعززه وقد تنشر الفساد السياسي والاجتماعي مما يكون له أثر كبير على الحياة اليومية في البلد.»
انواع الحقائق
في الاربعينيات من القرن الماضي، كتب الروائي الشهير جورج ارويل يقول «ليس الشعب دائما على حق»، وهي حقيقة محزنة، تريد دائما ان تصل الى الحقيقة حتى لو كان ذلك عن طريق رجل اعتيادي مثل جارك. لا يعني ذلك ان ارويل يريد ان يدافع بمقولته هذه عن سبل التأثير في افكار الشعوب عن طريق الكذب وأنصاف الحقائق، بل على العكس. فروايته « 1984» بشأن الاساليب الدكتاتورية في السيطرة على عقول الشعوب والتحكم بها، وان فشلت تلك الأساليب، فعن طريق القتل والقمع والارهاب، تعكس وجهة نظره المغايرة.
لكن كيف يجب على القائد السياسي ان يتصرف اذا كان مواطنوه مخطئون حقا؟ من المؤكد بالنسبة لميرزهايمر بأن المواطن الاعتيادي متعطش لسماع الاساطير القومية التي تتغنى بماضي البلد، وتصور مواطنيه على انهم شعب خير، وان اعداءهم هم الاشرار. الشعب والسلطة كلاهما يدفعان بمثل هذه الاساطير الى الوجود، كما يعتقد ميرزهايمر. اما انا فأشك بإمكانية إعمام ذلك، حتى في الولايات المتحدة الاميركية نفسها: فمنذ الستينيات من القرن الماضي، كان الملايين من اليساريين الأميركيين من «عامة الناس» يعارضون السياسة الأميركية، ويتهجمون على بلدهم بعبارات سيئة مثل الامبريالية والعنصرية والديمقراطية الزائفة، ويحملونها المسؤولية عن العديد من الإبادات الجماعية، وبأنها تشكل جنة للرأسماليين عديمي الرحمة، وما هو اسوأ من ذلك.
ومهما كانت افكار الناس من العامة، فأن ميرزهايمر يعتقد بأن القادة السياسيين يتبنون ببساطة الفكرة القائلة بأن الحقيقة تختلف باختلاف الناس.
جوزيف كوبلز- رئيس الحملة الانتخابية لهتلر- كان اول من برع بتطبيق هذه الفكرة في اثناء الحملة الانتخابية للنازيين، بترويجهم من دون حياء لأخبار متناقضة للمستهلكين واصحاب البنوك، وللنساء الكاثوليكيات والرجال الشيوعيين، وللبيروقراطيين والفنانين المتحررين، كل حسب ما يناسبه. ايضا في الولايات المتحدة الاميركية يتم بانتظام تطبيق الفكرة القائلة باختلاف الحقيقة من قبل اليساريين واليمينيين واللبراليين. مثلما يقول ارفنك كريستول من المحافظين الجدد «هنالك انواع متعددة من الحقيقة لأنواع مختلفة من الناس. الحقيقة التي تناسب الاطفال، والحقيقة التي تناسب الطلبة، والحقيقة التي تناسب المتعلمين، والحقيقة التي تناسب النخبة، وان الاعتقاد بأن هناك حقيقة واحدة تشمل الجميع، طريقة خاطئة في التفكير صنعتها الديمقراطية الحديثة.»
لا يتفق ميرزهايمر مع هذه الطريقة غير المحترمة في التعامل مع الشعوب «اذا كان القادة السياسيون لا يستطيعون تسويق سياسة معينة بطريقة عقلانية وشرعية بين جماهيرهم، فمن المرجح ان يكون العيب بالسياسة لا بالجمهور.»
اسباب مكشوفة
ان الاجابة عن السؤال لماذا يكذب القادة على الحكومات الاخرى، تبدو مكشوفة وواضحة، كما يتضح. انهم يكذبون لان بلادهم في حالة حرب، ولابد ان يخادعوا اعداءهم بشأن اهدافهم الحقيقية، والاستراتيجيات العسكرية، واعداد الدبابات والطائرات المقاتلة، ولابد ان يتسروا على ضعف جنرالاتهم وسوء تدريب جيوشهم. ومن اجل تجنب الحرب او الوقوع بها مبكرا، فأنهم يستعرضون احترامهم للقوانين والاعراف الدولية وحبهم للسلام، بينما يجهزون في الوقت نفسه بماكنتهم الحربية، ويتبجحون بقدراتهم العسكرية في اثناء المفاوضات، ويكذبون بشأن الشروط التي لا يمكن لبلدهم القبول بها، ويزرعون الخوف بشأن ردود افعالهم في حال عدم اظهار الطرف المعادي للمرونة، ويحوكون الاساطير لأصدقائهم كي يحصلوا على دعمهم، او كي يوصلوها الى الاعداء اذا لم يكونوا امناء معهم. يتحدثون عن اسلحة تثير الرعب لا يملكونها او لا ينوون استعمالها. باختصار: الاسباب التي تدفع القادة الى الكذب ليست غامضة، ولا تحتاج الى الكثير من الخيال، وهذا يعني ان عليهم ان يكذبوا اقل ما يمكن اذا كانوا يرغبون فعلا بعدم انهاء الحوار مع العدو، والاصدقاء، ومع مواطنيهم، او مع الاعلام.
لقد تطرق ميرزهايمر في كتابه الى الكثير من الامثلة التي تعرض المساوئ والمخاطر الكبيرة والنتائج السلبية للكذب على الشعوب فيما يخص العلاقات الخارجية. وقد خصص فصلا من كتابه لإيضاح الاثار العكسية للكذب في العلاقات الدولية، وكيف تعود بالنتائج السلبية على صاحبها، لكنه لم يكن مفصلا وغنيا بالأمثلة التاريخية والواقعية، مثلما تطرق الى اشكال الكذب والمراوغة والتلفيق والتستر.
ربما بعد ان تمر اربعة اعوام من حكم ترامب، سيعمد المؤلف الى اعادة كتابة ذلك الفصل من جديد، ليوضح فيه كيف يمكن للكذب ان يطيح حتى بدولة عظمى مثل الولايات المتحدة الاميركية.