في كتابه «المثقف والسلطة» كتب أدوارد سعيد المفكر الأميركي من اصول فلسطينية: (المثقف ليس هو حامل الشهادة، فكم من حملة الشهادات هم جهلة مقنعون. وليس المثقف من يضع معارفه تحت تصرف السلطة مقابل أخذ الأجر المناسب، بل هو من يملك ملكة المعارضة ورفض الركود، وهو الذي لا يرضى بحالة حتى يغيرها، فإن غيرها يبدأ يحلم بمواصلة التغيير… هذه هي وظيفة المثقف، إن لم يمارسها يصبح وجوده فائضاً أو غير ضروري).
يختصر لنا هذا النص الطريق لفهم العلاقة الملتبسة بين اضلاع هذا المثلث (المثقف والسلطة والشهادة) ومن خلاله يمكننا التعرف الى بؤس حال الاول لدينا (المثقف) وتورم الضلعين الآخرين (السلطة والشهادة) حيث لا حدود لعدد السلطات في العراق، ولا لشراهة أتباعها الى «الشهادات» من شتى الالوان والاحجام. اننا وفي هذا الوطن المنكوب بـ «الشهادات» والمغانم، لا يمكن ان نختلف مع أدوارد سعيد في وصفه الدقيق تماماً لهم «جهلة مقنعون» وهم كما قال عنهم كارل ماركس في عبارته «نكرات من الناحية النظرية ولا فائدة ترجى منهم من الناحية العملية»، فقد تعرف غير القليل من العراقيين على المغزى الحقيقي لاضلاع هذا المثلث المشؤوم قبل التغيير وبعده. نعم لدينا كم هائل من اصحاب التسميات والعناوين التي تشير الى ان أصحابها من حاملي «الشهادات» لكن بالمقابل سيصيبك اليأس والإحباط في سعيك للتعرف على أثر ذلك في الحياة العلمية والمعرفية والقيمية التي يعيشها مجتمعهم (جماعات وأفراد) في هذا الوقت، والذي يعرف فيه القاصي والداني نوع وحجم الهلوسات والهذيانات التي تعصف به، ببركة هذا التواطؤ الهائل بين سراق العناوين والألقاب، هؤلاء هم أسوأ طبقة سياسية عرفها تاريخ العراق الحديث.
المثقف، بالمعنى الذي كتبت عنه كثيرا قافلة المفكرين الاحرار من نسيج غرامشي وسارتر وسعيد وغيرهم من المهتمين بقضايا حرية الانسان وحقوقه وكرامته؛ هو ذلك الذي «يمتلك ملكة المعارضة ورفض الركود» لا كما هو رائج في مضاربنا من تبعية وذيلية ولواكة بلا حدود. لقد ترك لنا النظام المباد حطاماً لا مثيل له من أشباه المثقفين والكتاب والإعلاميين وما يفترض انهم من المنتسبين لنادي الانتلجينسيا، تحول بهمة «أولي الأمر الجدد» الى خميرة اساسية لتخصيب جيل جديد من هلوسات القرن السابع الهجري وهمومه ورسائله الخالدة. واستجابة لتطلعات هذا العدد الهائل من اصحاب العناوين والشهادات الزائفة والعقيمة، وضعت سلطات حقبة الفتح الديمقراطي المبين خطط انفجارية لإنتاج الآلاف من المناصب والمواقع السيادية التي تليق بكل هذا الطفح من الشهادات وأشباه المثقفين والكتاب والإعلاميين والمتجحفلين معهم بشراهة وضيق أفق معرفي وقيمي. للتعرف على عينات من هذا الوباء القيمي، يمكنك عزيزي القارئ الاطلاع على ما يكتبه وينشره عنهم العاملين في خدمة مقالات مدفوعة الثمن، والتي لا تستحي من تدبيج مآثر وإنجازات هذه النكرات، في زمن استباحته قوافل القتلة واللصوص والمشعوذين. في مثل هذه الشروط والهموم ومناخات الغيبوبة والضياع، التي نعيشها برفقة هذه الطبقة السياسية و»سلطاتها» يصعب العثور على دور جدي ومؤثر لذلك المسكون بهم التغيير وكسر الركود، وان وجد ما يشبه ذلك، فهم قليلون جداً وغالباً مترددون عند مفترق الطرق، أما الضاجون والصاخبون في التردي الراهن فـ «وجودهم ليس فائضاً او غير ضروري» وحسب بل ضاراً ومخرباً بشكل لم يعرفه العراق من قبل..
جمال جصاني
المثقف والسلطة والشهادة
التعليقات مغلقة