يوسف عبود جويعد
رواية محطات، للروائي حميد الحريزي، وهي ثلاثة أجزاء الجزء الاول (العربانة) والجزء الثاني (كفاح) والجزء الثالث (البياض الدامي) وكل جزء بكتاب مستقل ، ونكون مع الجزء الأول، الذي تدور أحداثة في محافظة النجف، في أحد محلات قضاء المشخاب، وقد نقل لنا الروائي، البيئة بصدقها ووضوحها، مستخدماً اللهجة الدارجة في المشخاب والنجف للحوار، الأمر الذي جعل بقية الادوات السردية ، تنتمي لهذا الصدق الفني في التناول بشكل تلقائي, وهي من الروايات التي تنتمي الى الواقعية الانتقادية، لكونها تنقل لنا حقبة زمنية مهمة في تاريخ البلد ، وهي حكم نور السعيد عام 1952 – 1953 وما بعد هذ التاريخ ، الا أن العتبة النصية التي إستهلت مسار مبنى السرد، هو ظهور الشخصية الرئيسية (كفاح )او (مطشر) يدور بالشوارع والازقة والمقاهي ، ويتغوط في صفيحة فارغة ، ولايستطيع أن يفعل ذلك في المرافق الصحية ، ويأتي ذلك بسبب سنين العمر التي قضاها في السجون والمعتقلات وغرف التعذيب ، وهذا يعني بأننا أمام رواية دائرية الاحداث كوننا سوف نكتشف أن هذه الاحداث هي لما يحدث لاحقاً بعد مرورنا على احداث الجزء الاول والثاني ، بهذا نعرف بإنها تبدأ من حيت انتهت، وهذا ما سوف نكتشفه في الاجزاء اللاحقة ، ويبقى السارد العليم يرصد حركات الشخصية المحورية، حتى تعثر عليه أمه، فتأتي به الى البيت وتعالجه ، فيستعيد وعيه، ويصر على إخراج عربانة أبيه لبيع (اللبلبي) ، ويقوم ببيع اللبلبي وسط تجمع لعمال البناء ( المسطر) في وقت دخول الامريكان والصراع الذي دار بين أبناء البلد وبينهم، ويحدث إنفجار كبير ، مما يتسبب في وفاة هذه الشخصية، وتتوقف الاحداث في هذا ، ثم ننتقل الى حياة مظلوم والد (مطشر) ، لنتابع حياة هذه الاسرة، وحياة هذه المحلة بشكل تفصيلي ، حيث نعيش أحداث ساخنة، بين حكاية مظلوم بائع (اللبلبي) والوضع السياسي المتأزم، وحياة البلد إبان هذا الحكم، الذي غلب عليه طابع التعسف والقمع ، وكثرت فيه المظاهرات، لتدخل تلك العربانة خضم الاحداث ويكون لها دور في سير العملية السردية ، ومن خلالها نكتشف مدى حاجة وفقر مظلوم، وكيف كان يعاني من أجل الحصول على قوت عياله عندما كانت العربانة مستأجرة ، وكان مالكها يأخذ حصة الاسد من وارد البيع, وكذلك نكتشف العلاقة الغريبة التي نشأت بين وغنودة ومظلوم ، وهي زوجة رجل ثري، وكذلك نتابع حياة مطشر ابن مظلوم ، وعلاقة الصداقة الحميمة بين مظلوم واستاذ منير، الذي كان يسارياً ، وتكمن جمالية السرد ، وكذلك عنفوانها ، بكون الروائي إستطاع إستجزاء هذه المحلة وبقية الاماكن التي ضمتها في متن النص وحملها ، وفرشها أمام المتلقي ، بكامل تفاصيل الحياة فيها , الجيران ، مقهى (عبد ننه) ، المدرسة، فرن الخبز، السوق ، المركز، (التتنجي) النجار ، العلاقة الانسانية النبيلة بين أبناءها، النخوة والشهامة والاخوة والوفاء , كون عندما اعتقل مظلوم بحجة أن العربانة تخفي منشورة ضد السلطة ، انبرى الجميع من أجل أخراجه من السجن , واخيراً استطاعت غنودة بحكم نفوذ زوجها اطلاق سراحه , واحتفل اهل المحلة بهذه المناسبة، والذي قرب هذه الرؤية إختياره اللهجة الدارجة كسياق فني لحوارالنص .
(استقبلته غنودة بإبتسامتها المعهودة، ها أبو «مطشر» سحولوك هذولة الظلام، شافوك فقير وما لك احد, ما حصلو غيرك يتهمونه حطوه ابراسك.. والله والله بهذلك أحوالهم
وهكذا فإن هذا الجزء كحال بقية الأجزاء، هو رواية بكامل أدواتها ، وبكل تقنياتها , وهي قائمة بحد ذاتها، وسوف نكتشف لاحقاً مدى إرتباطها ببقية الأجزاء، حيث أن دورة الاحداث تكبر وتتأزم، ويشترك مطشر في المظاهرات، كما يتعاون مظلوم مع المتظاهرين، وتحدث تفاصيل كثيرة سوف يطلع عليها المتلقي، ويتغير أسم مطشر الى (كفاح) كأسم حركي كونه واحد من المتظاهرين ، وتحدث المفاجأة حيث أحد أبناء عشيرة مظلوم يقتل رجل من عشيرة وهم يطالبون بالثأر ,مما حدى بمظلوم أن ينتقل الى ولاية النجف، ومن ثم الى بغداد ، وهكذا فإن أحداث هذا الجزء نقل لنا حقبة زمنية مهمة من تاريخ البلد.
في الجزء الثاني رواية (كفاح)
سوف نشهد إنتقالة جديدة، تشكل الحركة الطبيعية لمبنى السرد، حيث الحس التصاعدي السردي، واكتمال الحبكة، وظهور الثيمة، وكذلك نشهد أيضاً إنتقال الشخصيات الرئيسية الى العاصمة (بغداد) مظلوم واستاذ منير .
(أي ولك .. لبغداد مره وحده لا هنا ولا هنا.. انته جاضعت بـ»المشهد» أدور لبغداد…اشلون راح أتدبره.. الله كريم عليك يابو الجوادين يا باب الحوايج ..لنك تسفره بوجهي وتأمني بوطن) ص 5
وقد غلب على هذا الجزء طابع التقريرية والمباشرة والتوثيقية، مع الاحتفاظ بمسار السرد الاعتيادي، لضرورات قد نجدها مهمة , كوننا سنكون مع حركة الحزب الشيوعي ونضاله بكامل تفاصيله الدقيقة , ومنذ بداية انطلاقته، وعندما يلتقي مظلوم بأستاذ منير، يتغير إسمه الى (عاصف) بينما يكون اسم استاذ منير (سعدون) وسوف نكتشف فيما بعد أن استاذ منير هو (سلام عادل) هذا المناضل الكبير في الحركة الشيوعية، ويعمل مظلوم في مطبعة سرية للحزب، ويتعلم تصفيف الحروف، ويتعلم القراءة والكتابة، ويصبح ماهراً فيها، ثم ينتقل مع حركة التقلبات التي شهدتها تلك المرحلة من حياة الحزب، ليكون في مطبعة سرية تخص الحزب الشيوعي، وبعد إنقلاب الزعيم عبد الكريم قاسم للخلاص من الحكم الملكي , يتنفس الحزب الشيوعي الصعداء، وتنشط حركته، الا أننا نشهد تفاصيل خفية كانت تحرك مخاوف الزعيم من هذا الحزب ، فيظهر الحرس القومي, الذي أحدث دمار شامل في جدار هذا الحزب وأعدم قياداته المهمة ومنهم استاذ منير (سلام عادل) وبعض من الرفاق المهمين , وعلقت لهم المشانق في الاحياء الشعبية في فاجعة لم يشهد لها مثيل , وكان مظلوم (عاصف ) وهو شمران ايضا ، واحد من نشطاء هذا الحزب ومن القياديين المهمين بعد ان انتمى الى صفوفه، ونشهد في هذا الجزء تفاصيل مهمة جداً ,منها حكاية القطار الذي حمل 500 معتقل من كوادر الحزب مغللين بالأصفاد وقد غلقت عليهم كابينات القطار في صيف تموز اللاهب مما تسبب باختناقهم وهو يقلهم من بغداد الى السماوة حيث نقرة السلمان، وحكاية ا المقاومة والمظاهرات ، ومحاولة الانقلاب التي نظمها الحزب وباءت بالفشل ، مما إنعكس هذا الفشل على الكوادر الحزبية التي قتلت بسبب الاخفاق في هذا المضمار، ويتخلص مظلوم من هذا الحصار , ويعمل في تنظيم حدائق البيوت، ثم صياد، ثم يستقر أخيراً في بستان لاحد تجار محلة الكاظمية، وكان السياق الفني انسيابياً متدفقاً كثيفاً مشحون بالأحداث التي تخص حياة البلد في تلك الحقبة الزمنية، وتبقى الاحداث مفتوحة لاستقبال الجزء الثالث.
وهكذا ننتقل الى الجزء الثالث (رواية البياض الدامي) ، والتي بدأت الاحداث فيها وكأن مظلوم الناجي الوحيد، بعد موجة المظاهرات والاعتقالات والاعدامات والصراع القائم بين السلطة والحزب الشيوعي, وكانت هذه الاحداث تعتمد على مصادر تاريخية , وتميل في عملية السرد الى التقريرية والمباشرة والتوثيقية, بينما نجد حياة مظلوم وعائلته تعتمد النسق الفني الصحيح للعملية السردية المتبعة في فن صناعة الرواية، حيث تكون الاوضاع شبه مستقرة، وخفوت حركة المسيرة النضالية للحزب، وحصول مظلوم على مشتمل يسكن فيه من قبل استاذ فريد، فيحضر زوجته تعيش معه، بعدها يموت مظلوم , ليظهر (كفاح) بعد حصوله على شهادة الدكتوراه ثم زواجه، ثم مضايقته من قبل ازلام البعث لكونه رفض الانضمام للحزب , فينقل ويرفض تنفيذ الامر ويذهب الى الاهوار ليعمل في المعارضة، تدور احداث منها حكاية (سعيدة) و (وناطور) (وحاشوش) الرفيق البعثي و (سرحان) وتفاصيل كبيرة تختفي من خلالها حكاية (كفاح) ثم يعود للظهور، وهنا تعود الاحداث من بدايتها لنهايتها، ومن نهايتها لبدايتها، إذ انه تعرض للاعتقال والتعذيب، وخرج بعدها كما جرى في احداث الجزء الاول ، وفضل الروائي أن لا يكرر تلك الاحداث مرة ثانية .
رواية محطات بأجزائها الثلاثة، رحلة طويلة لنضال الحزب الشيوعي منذ اربعينيات القرن الماضي، وحكايات صادقة نقلت من الريف والمدينة، ولهجة ريفية صادقة اعطت للنص رؤية جمالية مختلفة، وجهد فني موفق .
من اصدارات دار الفؤاد للنشر والتوزيع لعام 2018