يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 53
حوارات مع جرجيس فتح الله
في البداية الامر صدم هؤلاء الذي ذكرتهم وقفوا موقفا يدعو الى الرثاء حقا اليسار كله بما فيه الشيوعيون بدأوا يميلون الى الكفة القومية المساندة للحركة الحزب الشيوعي الوليد اذ ذاك كان طبعا حزبا امميا يتطلع دائما الى موسكو والكومتون قبل ان يقرر سياسة او اتجاها معينا وهو مع اليسار الماركسي طوال خمس عشرة سنة او عشرين يساير بعنف وشدة الحملة السوفياتية الصادقة والبدئية على الدكتاتورية الفاشية في ايطاليا ثم الدكتاتورية النازية في المانيا ويعتبرهما عدو الماركسية والاشتراكية اللدودة فجأة وفي العام 1939 وعلى اثر معاهدة عدم الاعتداء والتعاون الاقتصادي التي وقعها وزير الخارجية الالماني (فون رينتروب) مع وزير الخارجية السوفياتي (فياتسلاف مولوتوف) صدرت اوامر باتة بوقف الحملات على النظامين وحكومة الكيلاني التي ساندتها الفئات القومية لم تكن تخفي علاقاتها مع دول المحور هذه هناك الديمقراطيون الدستوريون وبرغم قلتهم لا يريدون ان يكونوا اقل حماسة في التنديد باليد البريطانية الثقيلة- من القوميين ولا اقل وطنية ان شتت الدقة ولا اقل عدد للبلاط والطبقة الحاكمة.
هكذا وجدت نفسي في البدء اسفا على اقلام احترمها لأصدقاء اعزة تستبق لتمجيد انقلابي حركة فقرات (لذوالتون ايوب) مقالا بطفح بشرا بقرب زوال الامبراطورية البريطانية مقرونا تحرير العراق من نيرها وكذلك ظهر مقال لعبد الحق فاضل بعين الوتيرة وغيرهما ووقف الحزب الشيوعي موقف حذر يحمد عليه وان كان قال كلة طيبة اولية وربما وردته بعض النذر بهبوب العاصفة فعلم بان هلتر يعد العدة منذ زمن لغزو قلعة الاشتراكية ابدت صحيفتهم كفاح الشعب؟ او ربما الشرارة؟ لا ادري تأييدا مشروطا مشبعا بالتشاؤم للحركة لكن الميزان انقلب فجأة وابتعد معظم الشيوعيين عن ساحة الصخب والصحيح ثم داروا 360 درجة بعد الغزو النازي وبعد القضاء على حركة مايس بنحو ثلاثة اسابيع فشرعت صحيفة الحزب السرية تكتب المقالات الطوال المؤيدة موقف الوصي والسعيد ثم اشتدت الحماسة بعد توقيع معاهدة التحالف السوفياتي من القوميين وعزلهم عن الجماهير خشية ان يكونوا رتلا خامسا ثم اصدر الحزب اوامر تحذير لنقابات العمال تحظر عليهم القيام باي اضراب او اعتصاب او اي عمل من شانه الاخلال او عرقلة المجهود الحربي مهما كانت مطالبهم ملحة ومشروعة.
س: ونهاية الحركة.. وقد عاصر نموها؟
تجدها في عدة كتب تفاصيل هروب القائمين بها وعلى راسهم الكيلاني والمفتي والقعداء وقد ابى القائمون هؤلاء ان يشاركوا والشعب نتيجة حركتهم الاجرامية الطائشة وفكروا بالنجاة وتسللوا عبر الحدود الى ايران لم يملك اي واحد منهم شيئا من الشجاعة وكرم النفس ليقاسم الشعب العراقي محنته ولا كان واحدهم يستحق شيئا من التمجيد الذي ما زال يخلع عليهم حتى هذه الساعة وها اني اراها تطالعني في كتب تصدرها اقلام الدارسين الاكاديميين واصحاب الرسائل الجامعية الميامين في جامعة بغداد وغيرهم من معالجي الاحداث التاريخية اننا قرانا عمن لم يملك قضية او عقيدة وعن طغاة مستبدين الوقوع بأيدي اعدائهم فانتحروا ولا اقول عن اخرين من ذوي العقيدة والايمان والقضية فاين هؤلاء ابطال حركة مايس ما اولئك؟ ما هي الامثولة التي يقدمها الكيلاني وصحبه لرواد القضية العروبية؟ وكم يعود على القومية العربية بالنفع عندما تظفر اكاليل الغار على رؤوس هؤلاء ويوضعون في قائمة شهداء العروبة؟
قبل ايام كنت اقرا في واحد من كتب التمجيد التي اثبت لذكرها وعنوانه سقوط النظام الملكي في العراق وهو من تأليف الدكتور فاضل حسين الاستاذ في جامعة بغداد صدر في العام 1986 ولفت نظري فيه حديث نقله المؤلف عن (رجب عبد المجيد) الذي قال له: انه وفي ليله اعدام العقيدين فهمي سعيد ومحمود سلمان (من العقداء الاربعة) والاستاذ محمد يونس السبعاوي كانت قد وردته وهو ضابط خفر برقية تبنى بتنفيذ الحكم على الثلاثة فبكى مع انه صبور على المكاره ولم يبك عندما توفى ولده فاقسم على الانتقام لأولئك الضحايا.
كرجل قانون اني من انصار الغاء عقوبة الاعدام في القوانين الجزائية وفي العام 1955 كنت عضوا في هيئة بريطانية ذات طابع دولي مشاركا عمليا بمقالات وايحاءات لي في هذا الموضوع نشر بعضها في مجلة القانون واتي لاكره بطبعي ان تتنزل هذه العقوبة باي كائن وقد اسفت كما اسفت فيما بعد واستنكرت انزال العقوبة بالعقداء من ناحية مبدئية لا غير والعقيد (رجب عبد المجيد) الذي كان امين سر اللجنة العليا لصعبة الضباط الذي حققوا لثورة الرابع عشر من تموز غرفته اولا بالسماع واكبرت فيه عزة نفسه وشهامته عندما استهدف لانتقام عبد السلام وعبد الكريم اثر نجاح الثورة فاثر الاعتزال ولم الفة ايام كان نائبا لرئيس الوزراء بل عرفته قبلها شخصيا وعرفته في جلسة صمتنا مع اصدقاء موجها الي اسئلة ذكية حول تاريخ العراق المعاصر وكبر في عيني ولم يخطر ببالي يوما نه سخا بدموعه علي من كان السبب المباشر للكارثة العظمى الذي تكتب بها العراق وتسبب في مقتل (680) ضابطا وجندي ومدني و (571) مفقودا لا يعرف لهم اي قبر منهم (33) قتيلا و (36) جريحا من ضباط الجيش فضلا عن تدمير القوة الجوية العراقية تدميرا كاملا وتمزيق اوصال الجيش العراقي ولا يدخل في هذا طبعا ضحايا المذبحة التي ارتكبتها فلول الجيش ورعاع بغداد واوشابها والشاب القومي في الاحياء اليهودية من العاصمة يومي اول من حزيران.
س: سنسالكم عن هذا فيما بعد لكننا نتوقع المزيد من التفصيل في لعبة المعاهدة؟
كانت هناك الى جانب المعادة طبعا مسالة امتيازات النفط وهي تتعلق بالمعاهدة ايضا وهي لعبة (كيلانية) اخرى وفي العام 1941 حاول ان يعيدها فسقط من فوق الجبال اقول في 9 من ايلول 1933 كلف الكيلاني اثر انتقال العرش الى غازي بتأليف ثاني وزارة له فقال فيخطاب بمناسبة مراسيم الاستيزار انا واثق كل الوثوق من السياسة التي سارت عليها البلاد تحت قيادة سيد البلاد الراحل ومن اهم اركانها الاعتماد على الصداقة المنكوبة بين المملكتين الحليفتين العراق وبريطانيا العظمى اي معاهدة 1930 التي صادق عليها مجلس الامة فسوف لايطرا عليها اي تعبير.
كان هذا الثمن الذي وجب دفعة للبريطانيين للفوز بالوزارة ولازالة الاثار التي خلفتها مذبحة الاشوريين وتشير اوراقي التي اعتمدتها الان ان البلاط لم يعهد اليه بتشكيل الوزارة الا بعد ان تلقي من السفارة البريطانية اشارة ok والوثائق البريطانية تشير الى ان الكيلاني اكد للسفير في بغداد بانه لن يتعرض للمعاهدة بالقول او الفعل ذكر لي الراحل الاستاذ رفائييل بطي وكان من مشايعي الكيلاني ردحا من الزمن في اثناء احاديث لي معه في العام 1954 او 1955 ببغداد قوله بالحرف الواحد ان السفارة البريطانية اخذت من الكيلاني ومن الملك عهدا بان لا تقوم حكومة الكيلاني بالتعرض للمعاهدة في حالة تأليفه اياها وانتهزت احزاب المعارضة والقوميون فرصتهما فاستخدموا صحافتها لفضحة والتشنيع عليه ووصفت احداهما ما جاء في خطبته تلك بانه انكسه وطنية في سياسة الدول وقضاء على الامل المعقود في تعديل معاهدة 1930 ونصب عليه اشد الهجوم من الشخصية الوطنية (جعفر ابو التمن) رئيس الحزب الوطني ثم في موضع من مذكرات توفيق السويدي يذكر هذا السياسي انه في يوم ما من ايام شهر مايس 1941 ان (الكيلاني) طرف بابه ليلا وهو متخف- وطلب منه التدخل قائلا: هل في وسعك مواجهة السفير البريطاني وتبين له اتي مستعد للتفاهم معهم؟ فاذا وافقوا على الاعتراف بشرعية حكومتي فانا على استعداد للقيام بواجباتي حيال المعاهدة وساترك لهم حرية مرور جيوشهم بل ابقاءها في العراق بحسب ما تقتضيه ظروف الحرب ولو بلغ عددها مليون جندي فرد عليه السويدي بقوله انه علة العلل وعدم التفاهم معه هي ذات طابع شخصي والبريطانيون ما عادوا يثقون به.
في ذلك الوقت كان الوزير المفوض الالماني (كروبه) خليله ومرافقه ومستشاره.
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012