عبر سلسلة لم تنقطع حتى يومنا هذا؛ من الحروب والنزاعات الداخلية والاقليمية والدولية، وما ينضح عنها من فواتير الموت والانحطاط، انحدرنا الى ما نحن عليه اليوم من حال لا تحسدنا عليه أتعس الدول والقبائل والبلدان. لعنة الحروب وفرسانها وما يرافقها من تصحر مادي وقيمي، هي ما يفترض بشعوب هذا الوطن المنكوب التصدي له، ووضع حد نهائي له وللمخلوقات المهووسة به. غير ان ما جرى ويجري كان بالضد من هذه المعادلة والسبل المجربة التي اعتمدتها كل سلالات بني آدم، الا المنتسبين لنادي الرسائل الخالدة، اذ ما زال “اولي امر” مرحلة العدالة الانتقالية مصرون على التشبث بعروتها الى ان “يقضي الله أمرا كان مفعولا”. لم تكتفي حقبة احتلال عصابات داعش للموصل وثلث الاراضي العراقية، بالخراب الشامل والجرائم والانتهاكات الهائلة التي مارستها وحسب، بل تركت خلفها ارثاً يضاف الى كثبان الاحقاد والكراهة والتشرذم على اساس “الهويات القاتلة” ويمكن تلمس ذلك في حجم انتشار وباء العسكرة في المجتمع والدولة العراقية، وقد عكست نتائج الدورة الرابعة لانتخاب مجلس النواب العراقي ذلك بشكل سافر، فقد قذفت هذه المناخات والاجواء بممثليها الى مقاعد السلطة الاولى في البلد. مثل هذه المعطيات تشير، وعلى العكس مما يدعي القوم؛ الى ان البلاد في الاعوام الاربعة المقبلة، ستظل أبعد ما تكون عن الاستقرار والبناء والاعمار، وهذا ما رصدناه مبكرا لدى غير القليل من “صقورهم” من شتى الاحجام الكبيرة منها والمتوسطة والصغيرة، من الذين توعدوا اميركا أو “الشيطان الاكبر” كما يعتقدون؛ بالويل والثبور وعظائم الامور في الايام المقبلة.
مناخات وتوازنات واصطفافات محلية واقليمية ودولية، تدفع بالعراق والعراقيين بعيدا عما انتظروه طويلا، اي السلام والامن واعادة البناء، وقد تدفع التطورات الاخيرة في العلاقة بين واشنطن وطهران، الوضع في العراق الى مسارب لا تحمد عقباها، فالتصعيد والتهديدات بين الطرفين وصل الى حافاته الحادة، وهذا ما جاء في بيان البيت الابيض والذي تضمن “تحذيرا لطهران من انها ستتحمل مسؤولية اي هجمات تقوم بها ضد المصالح الاميركية في العراق”، جاء ذلك بعد حملة واسعة ومنظمة شنت ضد الولايات المتحدة وقنصليتها في البصرة، بوصفها المدبرة للاحتجاجات التي اندلعت في البصرة وادت الى حرق القنصلية الايرانية ومقرات الاحزاب والفصائل المسلحة الموالية لطهران. ان ازدياد حدة الاحتقان في العلاقة بين هذين الطرفين الاكثر تأثيرا في المشهد العراقي الهش والواهن، يعني اننا سنظل ميدانا مناسبا لتقديم الضحايا الباردة لحروب الآخرين أو ما يعرف بـ (حروب بالوكالة) والتي قال عنها احد أكبر المسؤولين الايرانيين في تعليقه على الحرب في بلاد الشام: (اننا نحارب في سوريا كي لا نضطر للحرب في طهران). لذلك كله ومع ترقب العالم للحزمة الثانية والاشد قسوة من العقوبات الاميركية على ايران بداية شهر تشرين الثاني من العام الحالي، فان نصيب العراق والعراقيون منها لن يكون متواضعاً مع هذه الحماسة التي ابداها غير القليل من فرسان الدورة البرلمانية الجديدة؛ في نقل المعركة الى تضاريسنا المنكوبة بلعنة الحروب. مثل هذه المعادلات والمعايير البعيدة عن الحكمة وروح المسؤولية، هي من تكبح اي محاولة لتغيير مسار البلد صوب الاستقرار والبناء والاعمار، وتمنع وصول البناؤون لقيادة البلاد، لا كما حصل مع تشرشل القائد الاسطوري للحرب، عندما لم يحظى باصوات الامة لانتهاء حقبة الحرب ودخولها الى مرحلة البناء والاعمار، فوصل البناؤون بديلا عمن انتهت مهمتهم، وهذا ما لا يتفق وثوابتنا الجليلة ..!
جمال جصاني
من للبناء والاعمار..؟
التعليقات مغلقة