علي لفته سعيد
تعتمد المجموعة القصصية للقاص والروائي ابراهيم سبتي التي حملت عنوان ( بائع الضحك ) والتي وضع مصمم الغلاف وجها مكفهرًا كتب أسفله ( قصص قصيرة جدا) والصادرة عن دار ميزوبوتاميا، تعتمد على ما يمكن استحصاله من تأويل للمعنى في عملية السرد القصصي بضرباته التي تعتمد المخاتلة في نهاية القصة.. ولأنه وضع في مقدمة مجموعته التي تجاوزت الخمسين قصة مقالتين سبق أن نشرهما عن القصة القصيرة جدا النشأة والأهمية والمحنة وتقرير المصير كما اسماهما في عنواني المقالين فان ما يمكن ربطه في السياق العام لمدلول الموضوعة.. اذا ما اعتبرنا ان السرد حتى لو كان قصة قصيرة جدا لابد من وجود حكاية تمشي عليها عملية التدوين ولابد من وجود تدوين يولد الحكاية ويعطيها المعنى المراد سواء كان معنىً فلسفيا ام تحليليا أو تأويليًا أم قصديًا وهو ما يمكن ملاحظته في القصص الخمسين لهذه المجموعة التي اخذت ثلاث أنواع لمعمارية التدوين لتكون قصة قصيرة جدا وهي نوع القصة التي لا تتعدى بضعة اسطر والثانية التي لا تتعدى الصفحتين والثالثة التي تزيد على الصفحتين ، وهو ما يعني ان التدوين لدى سبتي لا يعتمد على التدوين كقصة قصيرة جدا وانها يجب ان تكون مجرد أسطر . بل تعتمد على نوع الروي في الحكاية لينتهج التدوين.. فهوي تنقل بين هذه الأنواع الثلاثة ليبرهن على انه واحد ممن كتبوا هذا النوع القصصي بمهارة العارف بما يريد ولهذا فان ما يمكن مناقشته على التدوين يرتبط بالحكاية التي تعطي دافعًا قويًا لهكذا نوعٍ من السرد فيكون حينها سبتي قد تمكن من الحفاظ على روح الحكاية داخل القصة مثلما حافظ على مهمة السرد في قوة التدوين .
في القصص القصيرة جدا لا ينفك العنوان يكون عتبة أولى مثلما يكون متنًا سرديًا داخلًا ليس في التأويل النهائي بل مع السياق الأولي الذي يمكن الأخذ به ابتداءً.. ولذا فان الكثير من العناوين في المجموعة كانت تحتفظ بغرضها وأغراضها في كل ما يتصل بتعريف العنوان كنصٍّ موازٍ او عتبة او مدلول وهذا هو سر صعوبة هكذا نوع من القصص.. وعلى الرغم ان هذا لا يأتي على كل قصص المجموعة التي احتاج بعضها الى ملامسة اللغة أكثر من ملامسة واقع الحكاية للأخذ بيد الترتيب الزمني للحكاية ، فان العنوان الرئيس يبقى هو المحرك الأساس لكل ما يجذب المتلقّي الى المعنى او انه يطل على التأويلات المختلفة كونه النافذة التي شرعت لكي يدخل الضوء او يطل عليه.. وبائع الضحك العنوان الذي أخذ حيزًا من الغلاف كعنوان إضاءة ، كان عنوانًا للقصة الأولى المنشورة في المجموعة والتي تمنينا الا تكون قصة لأن العنوان الان لم يعد مجرد عنوان لقصة بل هو جامع لعناوين القصص ولكنه أيضا يمكن أن يتحوّل الى منطقةٍ أو منصّةٍ تجعل من الوثوب الى النصوص الأخرى عمليةً مقبولةً أو إنها تحيط بما يأتي من قصصٍ وإن جعلها القصّة الأولى.. فربما أرادها عملية فتحٍ للنافذة ليدخل الضوء أو ليطلّ على الضوء الخارجي الذي يأتي برياح التلقّي ونسائمه.. حتى ان الكثير من العناوين لا تحتاج الى تأويلٍ خاصٍّ بقدر ما تحتاج الى تثبيت العلاقة ما بين المتن والعنوان ليكون كما أسلفنا داخل المتن مثل ( ( تيتو.. فتاة القيثارة.. سرير الأفعى.. صوت قريب جدا.. بقايا.. الطرائد.. خنجر مسموم.. حجارة البلاد.. كارمن..كلينت إيستورد.. ارض منزوعة الظلال .. موبي ديك.. بذخ التورد.. حاشي منسم.. نزهة الضغيب.. موت المؤلف.. خضرة الحرب.. تيمورلنك) وعددا آخر من العناوين الذي يحتاج الى توصيل الارتباط العام بالخاص والعكس صحيح.. فمثل هذه العناوين وان كانت واضحة المعالم والتفسير ، لكن التأويل والقصدية يبقى مخبوءا تحت عباءتّي الحكاية والسرد حيث ينسج خيوطهما التدوين المقدرعلى الأخذ بيده الى نهارات صافية او ضفاف بلا اشواك.. وتلك هي المسؤولية الاصعب في القصة القصيرة جدا حيث لا يمكن إلا ان يكون العنوان كذلك وإلا لانفرط عقد المهمة ولتحول النص الى اسم آخر لا يوجد فيها ( جدا) ولهذا فان المهمة الاساسية في بنية الكتابة لهذه المجموعة قد تمكنت الى حد كبير في نسج خيوطها فيما يتعلق بالكثير من عنوانات النصوص.. بمعنى آخر ان العناوين لا تكون جزءًا منفصلًا أو انها جزءٌ من متنٍ سردي.. بل هي في أغلبها منطقة تأويل أولى أو نقطة ارتكاز لتأويل قادم .
ينتهج القاص سبتي طريقة قد لا تكون منفردة في الاستهلالات التي تحتاجها قصصه ، لكنه على الأقل يحاول الأخذ من أسلوبية القصة القصيرة واسقاطها على القصة القصيرة جدا.. ولهذا فان البنية الكتابية في الاستهلال تأخذ منحى دمج المستوى الاخباري مع المستوى التصويري ومن ثم قيادة الفكرة بسرعة اللغة وتصاعدها الحدثي كحكاية وهو يمسك باليد الأخرى عملية التدوين وفق متوالية الصعود التراتبي لماهية الحكاية.. بمعنى ان المستويين الإخباري والتصويري يتحملان عبء الاخذ بالمتن السردي من اجل فك اشتباك المستوى القصدي مع المستوى التأويلي خاصة وان المستوى التحليلي في هكذا قصص لا يكون مهما او غير ظاهر للعيان ، لان مهمة هكذا نوع من القصص ليس تقديم تحليل لماهية الفكرة بقدر ما إعطاه المستوى التأويلي قامة كبيرة وإن تنافس المستويين القصدي والفلسفي ، وهي عصارة جهد المنتج في التدوين.. وهو ما يعني ان مهمة تأجيج الصراع هي المسؤولية التي تتحكم بقيادة المتن السردي وتبادل الأدوار بين فعل القص وفعل الشخصية لإعطاء الدفق الدرامي مفعوله وفق ما يمكن ان تمنحه مفارقة القصة القصيرة جدا.
ان هذه الاسلوبية في المحاكات بين عملية التدوين بين نوعي القصة القصيرة هي أهم ما يميز سبتي.. فهو لم يتخلص من ثوب القصة القصيرة جدا ولم يعتمد عليه في ترتيب الاناقة النهائية التي تخرج على اساس مهمتين رئيسيتين.. الأولى هي اللغة التي تقود التدوين وتوضيح الحكاية وهي مفردة سريعة مراقبة وداخلة ومصورة وقادرة على منح الصورة تفاصيلها الدقيقة بأكبر جهد ممكن وهي تمتلك القصدية لأنها غير مرتبكة وتسعى الى تشكيل القوام للحكاية من خلال تدوين السرد وانتاج متن سردي.. والثانية هي ما تفعله النهايات في توضيح بؤر النص القصصي وبالتالي تسمية النص على انه قصة قصيرة جدا.. لان هناك قصصا أكثر من صفحتين وقد أخذت من القصة القصيرة روحها وطريقة بنائها لكنه في النهاية انتقلت الى القصة القصيرة جدا و وبالتالي كانت الرؤية التي يتم اصطيادها هي احداث المفارقة في هكذا خاصية تدوينية..
وأمام هاتين المهمتين تبرز المهمة الثالثة وهي المهمة الاكثر قربا من المتلقي الذي يبحث عنها في عملية الامعان في النص سواء النص القصصي بأنواعه ام الروائي أو اي نص أخر حتى لو كان الشعر وهو الصراع.. حيث يبدأ في اغلب قصص المجموعة من الجملة الأولى حتى لكأنه يدمج ما بين الاستهلال وما بين تصاعد الحبكة القصصية.. لذا فان الاهتمام ينصب على كيفية إدامة الصراع للوصول الى الذروة.. وهذا الصراع لا يعتمد على تفاعل التضادات كما هو متعارف عليه في مثل هذه القصص بقدر ما يعتمد على ما تصوّره عين المنتج لما يصاحب حركة الشخصيات أو الأشياء التي تعطي دفقًا معنويًا لرسم معالم الصراع المتخيلة بما ينتجه من خاصية التفاعل ما بين صراع الفكرة وصراع التدوين.
أن الصراع ايضا يكون في اغلب القصص يعتمد على المستويين التصويري والاخباري ولكن المستوى القصدي هو الأكثر وفرًا من حالة دمج المستويين الآخرين.. فبالرغم من أن هكذا نوع من القص ، يعتمد على المفارقة وإزاحة التوقع واستخدام الغرائبية او اللحظة غير المتوقعة حتى لو كانت واقعية بهدف منح الدهشة قيمتها العليا في اللحظة التي يتم فيها القبض على لذة التلقي وهو ما يعني صيد وفير في انتاج النص .