يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 36
حوارات مع جرجيس فتح الله
عرفت ( عبدالله النقشبندي ) من كتابه حول المسكوكات القديمة ( الدينار العراقي ) واعجبت به . ولم اجد حراجا في انهاء رسالة رئيس المجمع اليه . وكان لطيفا ومجاملا لا اذكر بالضبط ولا بالتخمين مادرا بينا كما لاذكر كيف استقبل الامر . على اني اعتبرت الموضوع منتهيا بالنسبة الي بعد تلك المكالمة ولم ادر انه في حينه اعتذر عن الحضور . فقد تسارعت بي الاحداث بي لتحول بيني وبين التفكير في مثل هذه القضية الجانبية . وقد سألت عن الدكتور النقشبندي اثر قدومي الاخير الى كردستان فابلغت بنبا وفاته وعلمت بأنه أيضا اعتذر ولم يضم نفسه الى المجمع
س: على ذكر المجمع العلمي الكردي الذي جرى تأسيسه بعد بيان الحادي العشر من اذار . هل جرت محاولة لضمكم اليه ؟
كلا. واظنه كان بالاصل مجمعا لغويا , او انه يعنى بالثراث اللغوي الكردي ومعرفتي بالكردية قراءة او حديثا تكاد لاتذكر فيما اراني ذا نفع له ولااطلبت ذلك .
سعيد القزاز
س: سأنتقل بكم الآن الى ميدان آخر . تضمنت لائحة الاسئلة التي وجهناها اليكم انا والزميل (مؤيد طيب) اسماء بعض الشخصيات السياسية العراقية التي خلفت طابعها على احداث العراق وتاريخه القريب وبدانا بالسيد سعيد القزاز احد الاداريين والوزراء المشهورين في العهد الملكي .وزير الداخلية عدة مرات . وهذه الوزارة في العراق اهم واخطر وزارة وهو الوزير الوحيد الذي انفذ فيه عبد الكريم قاسم حكم الموت بين احكام مماثلة اخرى لزملاء له . علمنا من مصادر وثيقة برابطة صداقة شدتكم اليه بدأت اثناء توليه ادارة محافظة (الموصل) انه ليسر قراء صحيفتنا ان تتحدثوا من تجاربكم الخاصة ومن منطلق علاقتكم به لاسيما بعد اختاره عبد الكريم قاسم لهذ النهاية المحزنة وفي رأي الكثرين هي مما لا يستحقها قط وقد اختلفت الاراء فيه فمنهم من يرتفع به الى النهاية من النزاهة والكفاءة والمقدرة ومنهم من يعتبره واحدا من رجال نوري السعيد ومن مشاركيه وانصاره في عمليات القمع التي مارسها العهد الملكي ضد الحركة الوطنية ودعاة الاصلاح لبضعة في قلب رجعية الطبقة الحاكمة في العهد الملكي افي امكانهم القاء الضوء على هذه الشخصية ووضعه في مكانه التي يستحقها من تاريخ العراق القريب استنادا الى تجربتكم الخاصة ؟
ما اشك في انك قرأت الفقرة الهامشية التي وردت عن السيد سعيد القزاز في الصحيفة 542 من الجزء الثاني لكتابي “العراق في عهد قاسم” وهي فقرة استطرادية لم يتح لي المقام وقتها الى التفصيل من سبيل . وها انا الان اطالب منك بما كان يؤدي ابدا ان انتداب له . واملي بأنك من الفريق الذي لاجهل طريقي ومنهجي في مااكتبه . فأنا لااحاول مطلقا اللجوء الى الاسلوب التوفيقي واعمد دوما الى تسمية الاشياء بأسمائها دون مواربة او تلطف . فأبسط الرأي والحدث بدلالاتهما واسانيدهما ماوسعني ذلك . واعتمد خلاف ذلك على ثقة قرائي بأمانه الرواية التي اسردها متحملا تبعاتها . ومع انه يصعب احيانا استبعاد العاطفة والميول لان ترك الميدان لها دون كابح يريح الكاتب في مأزق ويدفع به دون ان يدري الى مواطن الشطط. فقد كنت والله احاذر دوما الانزلاق الى مهاوى التطرف والمبالغة ولاسيما حين يفرض علي ان اتناول جانبا من حياة خلقت على اديم الحياة اثارا ظاهرة يتحدث بها الناس واثار خفيت واستسرت ليعلوها غبار الزمن يتعاقب الايام فتغدو نسيا وقبض ريح وهو شر ماتبتلى به ذكرى الانسان المعطاء الاعز .
سأعود الى ما قبل نصف قرن تقريبا وهو عند الحسابين النسابين ما يناهز الجيلين من البشر . وقليل جدا من امثالي بقي في قيد الحياة الان ممن عاصر سعيد القزاز او سمع عنه في ذلك الزمن الذي اتحدث عنه . وساقصر الحديث عما اخبرته منه بنفسي ولا اخرج به عن نطاق صلتي به الافي موضع واحد يتعلق بالشهرة التي سبقته قبل اسناد منصب محافظة نينوى الحالية اليه ( وكانت تدعى وقتذاك لواء الموصل والمحافظ هو المتصرف) وهي رواية لها صلة وثيقة بمنشأ العلاقة .
كان لي صديق في الموصل يدعى (علي حسين الاحمد) مزارع طارئ على الزراعة متوسط الحال او دونها ذرب اللسان سريع البديهة جيد الكتابة جريء في تعامله مع شذوذ السلطة وتحكمها لايتردد كثيرا في تعريض نفسه لمكامن الخطر وغضب السلطة وقتما يهضم له حق لم اسمعه مرة ينطق بكذبة او يعمد الى مبالغة فيما يروى . ولايجري ذكر سياسي عراقي او اداري كبير في محضر منه الا وشبع اسمه بلغته او رواية مثلبة اثرت عنه ولم يكن يسلم سياسي ولا اداري عراقي من لسانه الماضي . كان مثالا لخيبة عامة مرة في صلاح المجتمع . ويأس قتال اسلمه الى التمسك بعري الدين كأخر ملاذ .
في عام 1950 او نحوه جرى وهو في مكتبي ذكر نبأ اسناد منصب محافظ الموصل للسيد سعيد قزاز وانتظرت من صديقي هذا التعليق المعهود الساخر الذي اعتاد ان يرشق به اضرابه من الاداريين والساسة فخاب ظني وظل ساكتا .
فثار بي الفضول وسألته محرضا اين تعليقاتك ؟ ولدهشتي وعجبي سمعته يقول وانا اكاد لا اصدق اذاني : ” هذا الرجل (مشيرا الى القزاز ) يختلف عنهم ”
وبالنسبة لصديقي (علي ) كان هذا نهاية في المديح . ولم اصبر وشددت عليه النكير فقص علي ما سأوجزه بهذا :
كانت اوخر الحرب او نهايتها . وسعيد القزاز محافظ (اربيل ) والبلاد تشكو ناقصا هائلا من اطارات السيارات وهي لاتعطي الا بمعاملات مضنية شاقة وتحفظات كبيرة وبقرارات من وزارة التموين التي احتكرت توزيعها . وقد بلغت اسعارها في السوق السوداء اكثر من ثلاثين ضعفا نسبة لقيمتها الحقيقية .
تمكن صاحبي (علي ) من الحصول على اطر من وزارة التموين لسيارته . الا ان لصوصا سطو عليها وهي في طريق تدب بالقرب من (الكوير ) على الزاب وتركوها على قارعة الطريق جالسة فوق حديدها . قال علي ) شخصت الى اربيل وقد ضاقت علي الدنيا وكتبت عريضة الى المحافظ نفست فيها عن كربيتي بعبارات منتقاة من قاموس القذف بالحكم والحكام وسلمتها للدائرة وعدت الى الفندق منتظرا امر القبض علي ومهيئا نفسي الى الاعتقال . وما مرت ساعات قلائل الا وصدق ظني فقد جاء عريف شرطة يسأل عني قائلا ” قم فالمتصرف يطلبك “.
رأيت سعيد قزاز واقفا وبين يديه مفوض وبضعة انفار من الشرطة وكأنه يتهيأ للخروج وما حسبت انه بانتظاري . قال وهو يلوح بعريضتي في الهواء أأنت كاتب هذه العريضة ام كتبها لك احد ؟ قلت انا كتبتها . قال تعال معي اذن خذ عريضتك وضعها في جيبك قبل ان امر باجراء التعقيبات القانونية ضدك هيا اتبعني وعين لي موقع السطو . اركبني معه في السيارة ولحقت بنا حافلة بها ضابط وانفار له . بلغنا ناحية الكوير واشار الى مدير الناحية وفي خلال ساعة واحدة كان ثمة اكثر من عشرين من رؤساء العشائر المخيمة والمستقرة عربأ وكوردا . ووقف بينهم ” القزاز ” مهددا قائلا : هذه المرة لا اريدكم ان تأتوني بالمجرمين السراق وسأعفو عنهم . لكني انذركم انتم , ان غابت شمس هذا اليوم ولم تصل الاطارات , فتهيأوا كلكم من دون استثناء الى فترة سجن طويلة . اذهبوا الان فجيئوا بها او فاحزموا افرشتكم فاني معتقلكم جميعا . قال هذا واشار علي بالبقاء مع مدير الناحية حتى اتسلم المنهوب ثم غادر الموقع . ولم تغيب الشمس ذلك اليوم حتى كانت سيارتي تنهض بالاطارات .
لواء(محافظة ) الموصل نينوى كان انذاك مؤلفا من تسعة اقضية معظمها اقضية كردية صرف فهي اكبر واهم محافظة عراقية على الاطلاق واكثرها مشاكل وتعقيدات فقد اعتادت الحكومة المركزية ان تولي عناية خاصة في اختيار متصرفها .
وفي الموصل كان يصدر انذاك ثلاث صحف , الاثنتان الاخريان خلاف صحيفتي كانتا مجرد صحيفتي اعلانات صاحباها ليس من طبقة المتعلمين او المثقفين بل كان اصدارهما لمجرد الارتزاق من مردود الاعلانات الرسمية والاهلية التي كنت اشرف عليها او املكها هي الجريدة الوحيدة المقروءة والمطلوبة لذاتها ومدار الاهتمام بما يرد فيها من مقالات واخيار وتعليقات ولم اكن من عادتي الترحيب الممجوج بالموظف الجديد بعبارات اطراء وملق بل كنت اكتفي بنبأ مقتضب من دون تعليق . ولم اشذ عن قاعدة عند قدوم المتصرف الجديد .
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012