بواسطة أحمد حسن علي
تتعرّض شركة الخطوط الجوية العراقية لانتقادات كثيرة بسبب الإهمال وسوء الإدارة، واستمرار التراجع في جودة الأداء والخدمات. وباتت السمة المعروفة عنها أنها لا تلتزم بالموعد، وتتأخر دائماً أو تلغي رحلاتها دون سابق إنذار؛ مما يسبّب ضرراً بمصالح المسافرين؛ وهذه الأمور وغيرها دعت الوكالة الأوروبية لسلامة الطيران إلى فرض حظر على دخول الطائرات العراقية في المجال الجوي الأوروبي؛ لعدم توافر معايير سلامة الملاحة الجوية؛ لذا فإن عودة “الأجنحة الخضراء” إلى مكانتها المرموقة يحتاج إلى معرفة ما حصل لمثيلاتها في الدول الأخرى وكيف تغلبت على مشكلاتها، وحققت تطوراً كبيراً، وستأخذ هذه الورقة التجربة التركية كمثال لهذا التطوّر.
من يتابع الكيفية التي تطورت من خلالها الخطوط الجوية التركية التي حققت نجاحات متتالية في السنوات الاثنتي عشرة الماضية، عليه أن يعرف كيف عانت من الفشل وسوء الإدارة في السابق. وفي حين كانت الخطوط الجوية التركية تمتلك ٦٥ طائرة في عام ٢٠٠٣، منها ١١ طائرة غير صالحة للطيران، فقد بلغ عددها ٣٢٨ طائرة نهاية عام ٢٠١٧ برحلات منظمة إلى (٣٠٢) وجهة.
وكما هو شأن الخطوط الجوية العراقية حالياً، كان تنظيم رحلات الطيران التركية يقتصر على الدول المجاورة والقريبة من تركيا فقط؛ لعدم توافر الإمكانات المادية والتقنية التي تسمح بتنظيم رحلات إلى بعض العواصم العالمية الكبيرة التي تبعد مسافات شاسعة عن تركيا.
كيف تطورت الخطوط الجوية التركية؟
مع نهاية عام ٢٠٠٣، أقدمت الحكومة التركية على تغيير طاقم الإدارة الذي كثرت عليها الشكاوى بطاقم جديد، وبعد عام من العمل الدّؤوب اشترت الشركة ٦١ طائرة جديدة، بعد أن كانت تمتلك آنذاك ٥٤ طائرة تعمل فعلياً، ومع نهاية عام ٢٠١٥ بلغ عدد الطائرات الموجودة في حيازة الشركة ٢٩٩ طائرة تنظّم رحلات إلى ٢٨٤ مدينة حول العالم.
وبحسب أرقام موقع الشركة، فقد كان دخلها مليار دولار أمريكي تقريباً عام ٢٠٠٣، وارتفع إلى عشرة مليارات دولار مع حلول عام ٢٠١٥. وقد ازداد عدد المسافرين الذين كانوا يستخدمون طائرات الخطوط الجوية التركية عام ٢٠٠٣ من عشرة ملايين مسافر إلى ما يقارب ٦١ مليون مسافر في عام ٢٠١٥ في الخطوط الداخلية والخارجية. وارتفع عدد العاملين في الخطوط الجوية التركية عام ٢٠٠٣ من ١٠ آلاف عامل إلى ما يقارب ٤٤ ألف عامل في مختلف المجالات مع نهاية عام ٢٠١٥.
لقد تأسست الخطوط الجوية التركية في عام ١٩٣٣ كشركة مملوكة للدولة وبتمويل كلي من الحكومة، ولكن بعد بدء برنامج خصخصة القطاع العام في الثمانينيات، خُصخِصت الخطوط الجوية التركية في التسعينيات وصارت حصة الحكومة بعد عدة سنوات من خصخصة الشركة ٤٩٪ فيما طرحت بقية الأسهم للقطاع الخاص.
وبفضل حافز تشجيع الإنتاجية وزيادة رأس المال، نظمت الحكومة طرحاً أولياً عاماً في عام ١٩٩٠ مع عرض ١,٨٣٪ من أسهم الشركة للقطاع الخاص؛ إلا أن سمعة الخطوط الجوية التركية بقيت سيئة للغاية قبل التسعينيات وبعدها، وعانت من مشكلات كثيرة، مثل: سوء الإدارة، والتأخير المستمر في الرحلات، وسوء الخدمات، وتعرضها لعمليات الخطف، وسوء الصيانة التي تسببت في سقوط بعض الطائرات.
وفي عام ٢٠٠٣، جاءت حكومة حزب العدالة والتنمية إلى السلطة وبدأت بسياسة توسيع الخصخصة في الخطوط الجوية التركية. وتم عرض عقدين عامين حيث انخفضت حصة الحكومة إلى ما دون ٧٥٪ في عام ٢٠٠٤، و٤٩٪ في عام ٢٠٠٦؛ ونتيجة لعملية الخصخصة هذه، تحوّلت الشركة من كونها مؤسسة حكومية إلى شركة قطاع خاص بحلول أيار ٢٠٠٦ مما دفع إلى مزيدٍ من الكفاءة والإنتاجية.
وباشرت الحكومة التركية بتنفيذ سلسلة من الإصلاحات “القاسية” في الخطوط الجوية منذ عام ٢٠٠٣؛ بهدف توسيع شركة الطيران التركية، مثل: تحرير السوق المحلية، وتحسين القدرة التنافسية الدولية للخطوط الجوية التركية.
وبالتزامن مع مجيء حكومة العدالة والتنمية في عام ٢٠٠٣، أُنشِئَ مجلس تنفيذي جديد للخطوط الجوية التركية في نفس العام، التي اتخذت خطوات رئيسة لفتح طرق جديدة وتحسين الشبكة، وتجديد طائرات الأسطول القديمة مع طائرات أحدث وأكثر كفاءة.
ومن الجدير بالذكر أن عدد اتفاقيات الطيران المدني الدولي الموقعة بين تركيا والحكومات الأجنبية قد ارتفع من ٨١ اتفاقاً في عام ٢٠٠٣ إلى ١٤٣ اتفاقاً بحلول عام ٢٠١٢؛ مما ساعد الخطوط الجوية التركية على توسيع شبكتها الدولية.
لقد أنشأت الخطوط الجوية التركية شركات فرعية، وأسست شراكات مع مختلف أصحاب المصلحة لدعم عملياتها، وتشمل الشركات الفرعية التابعة لها مراكز الصيانة والتصليح، ومراكز الخدمات التقنية، ومراكز المحركات، ومراكز الوقود، وشركات الأطعمة، ومراكز الخدمات الأرضية للمسافرين وتنظيم الطائرات؛ وقد ساعدت هذه الشركات على تحسين جودة الخدمة من خلال تخصص كل منها. وفضلاً عن ذلك، تمكنت الخطوط الجوية التركية من جعل هذه الشركات الفرعية فعالة ومنخفضة التكلفة، بحيث تشكل تكاليف الوقود والعمالة النسبة الأكبر من تكاليف تشغيل شركات الطيران.
وعلى مدى الخمس عشرة سنة الماضية، أصبحت تكلفة الوقود جزءاً مهماً بنحو خاص من التكاليف التشغيلية، وقد ارتفع سعر الكيروسين النفاث من ٥٠ دولاراً للبرميل في عام ٢٠٠٤ إلى ١٢٦ دولاراً للبرميل في عام ٢٠١٣، وانخفضت إلى ٨٣ دولاراً نهاية ٢٠١٧، وأصبح استخدام الطائرات الفعالة شعاراً اعتمدته الخطوط الجوية التركية في سعيها لخفض تكاليف الوقود. وفي حين كان متوسط عمر الطائرة ٩ سنوات عام ٢٠٠٤، انخفض إلى ٦.٧ سنوات بحلول عام ٢٠١٣، وحوالي ٥ سنوات في عام ٢٠١٧.
وفي عام ٢٠٠٦، أخرجت الشركة عن الخدمة جميع طائراتها الأقل كفاءة لتحل محلها طائرات (A319-100) الأكثر كفاءة في استهلاك الوقود؛ ونتيجة لهذه الإجراءات انخفض متوسط استهلاك الوقود بنسبة ١٠٪ تقريباً من ٢٠٠٥ إلى ٢٠١٠. وأطلقت الشركة مشروعاً مشتركاً مع شركة (أوبيت) النفطية الرائدة في تركيا؛ لتوفير الوقود وتخزين إعادة التزود بالوقود. ويرى بعضهم أن هناك حاجة ملحة وضرورية لخصخصة الخطوط الجوية العراقية بطريقة مشابهة للطريقة التركية، فالطيران المدني العراقي بحاجة إلى بعض الإجراءات “الصارمة”، تتمثل في طرحه للقطاع الخاص، وتأسيس إدارة جديدة تتولى رسم سياسات ناجحة وتنفيذها وتكون قائمة على الربح والخسارة.
ولم تنجح وزارات النقل المتعاقبة في تولي شؤون الخطوط الجوية العراقية، على الرغم مما أنفقت من أموال ووضعت من برامج وسياسات بسبب التداخل في السياسات والصلاحيات في الحكومات الائتلافية المتتالية، وستبقى جودة خدمات الخطوط الجوية العراقية للأسف غير مرضية، ما لم تتحول إلى قطاع خاص خارج الائتلافات الحكومية المتعارضة.
الموقع الاستراتيجي للعراق
وبالعودة إلى الأنموذج التركي، تجدر الإشارة إلى أن معظم رحلات الطيران التركي لا تتجاوز الأربع ساعات ما بين تركيا وأوروبا، أو تركيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أو تركيا وأواسط آسيا؛ وبالتالي تستطيع شركة الطيران باستخدامها موقع إسطنبول الجغرافي في تحقيق رحلات كثيرة مع تكلفة وقود مناسبة.
ولجأت الحكومة التركية إلى اتّباع سياسة ناجحة في تنشيط السياحة مستفيدة من الإرث التأريخي لمدينة إسطنبول، فضلاً عن إنشاء منتجعات سياحية كبيرة على المدن الساحلية، وسهلت وزارة السياحة للقطاع الخاص تسويق فكرة قضاء العطلات في تركيا مستفيدة من العروض منخفضة التكلفة للخطوط الجوية التركية.
وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى الأرث التأريخي للعراق سواء من الناحية الإسلامية أو ما قبل الإسلام، وأيضاً يمكن الاستفادة من موقع العراق الجغرافي – كما هو الشأن في إسطنبول- في تحويل مطار بغداد إلى أحد أكبر المطارات في الشرق الأوسط لمرور الطائرات بين الشرق والغرب.
ولأجل تحويل مطار بغداد إلى مطار عالمي رابط بين القارات، يفترض إنشاء مجمع وقود في المطار يعمل على توفير الوقود النفاث لشتى شركات الطيران، ولن تنجح هذه العملية ما لم تتولَّ شركة معروفة دولياً برصانتها تصميم مجمع الوقود في مطار بغداد وإدارته.
وحين المقارنة مع مطار دبي في الإمارات العربية المتحدة، وهي من أكثر المطارات ازدحاماً في العالم من حيث الرحلات الدولية، نجد أنها تتعامل مع طلبيات شركات الطيران وتوافِر الوقود بكمية تتجاوز ملياري غالون سنوياً -على وفق بيانات شركة النفط الإماراتية-؛ ولتوفير تلك الكميات قدمت الحكومة الإماراتية تسهيلات تزويد الوقود عبر مصفاة جبل علي.
وستؤدي خصخصة الخطوط الجوية العراقية بالنتيجة إلى تقديم تسهيلات كبرى للمسافرين، بدءاً من خدمات المواصلات العامة وسيارات الأجرة، ومكاتب الاستعلامات والدعم، والخدمات المالية كتسهيلات مكاتب الصرافة وماكينات الصراف الآلي في مباني المطار، والمطاعم، ومنتجات السوق الحرة، ومركز طبي، والتسوق. وهناك تسهيلات أخرى مطلوبة مثل صيدلية تعمل على مدار الساعة، وعيادة للإسعافات الأولية، وغرف لعناية الأطفال ولعبهم، وصالونات حلاقة، وخدمة وكالات السفر، فضلاً عن حاجته إلى فنادق من الدرجة الأولى.
العاملون في الخطوط الجوية العراقية
تعدُّ العمالة ثاني أكبر بند لتكاليف التشغيل بالنسبة للعديد من الخطوط الجوية، وقد سجلت شركات الطيران التركية تكلفة تشغيل للموظفين بنسبة ١٧٪ من إجمالي النفقات في عام ٢٠١٣، التي هي تكلفة منخفضة مقارنة مع مجموعة الخدمات الجوية التي تقدمها غالبية شركات الطيران العالمية.
وإذا ما قورنت مع طيران الإمارات فإن موظفيها يتمتعون أيضاً بميزة انخفاض تكاليف اليد العاملة؛ بسبب استخدامهم أسواق العمل الرخيصة مثل الهند وباكستان وسريلانكا وبنغلاديش؛ لتنفيذ مهام مثل: الخدمات في المطارات، والصيانة، ومراكز الاتصال. في حين أن شركات الطيران الأوروبية تعمل على وفق قوانين الاتحاد الأوروبي التي تتطلب رواتب عالية بدعم من نقابات قوية، وهذا التفاوت الكبير بين تكاليف العمالة مع موقع مدينة إسطنبول الاستراتيجي، جعل شركة الطيران التركية تحقق إرباحاً كبيرة.
وتعدُّ إسطنبول -وهي القاعدة الرئيسة للخطوط الجوية التركية ذات النسبة السكانية الهائلة- مصدر العمالة المنخفضة التكلفة، وبمماثلة كلفة المعيشة فيها مع معظم المدن الأوروبية، وعدم وجود نقابة قويّة للمطالبة بحقوق العاملين، أضافت ميزة ربحية للطيران التركي.
ولن تنجح الخطوط الجوية العراقية ما لم تتبع الحكومة سياسات جديدة ناجحة، فالحكومة -أولاً وقبل كل شيء- بحاجة إلى خصخصة الشركة وتغيير الإدارة بكادر إداري متخصص بعيد عن السياسة، ومن ثم إنشاء شركات فرعية مساندة للطيران العراقي تتولّى تقديم الخدمات المطلوبة، واستخدام عمالة منخفضة التكلفة.
*مركز البيان للدراسات والتخطيط.