لم تنتزع الصحافة لقب (السلطة الرابعة) عبثاً، بل جاء تتويجاً لمشوار مجيد ومرير قطعته على طريق الارتقاء بمنزلة الإنسان وحقوقه وحرياته، عبر تحفيز العقل البشري ليقدم أفضل ما لديه، وذلك لما تقدمه من خدمات جليلة في مجال تقصي الحقائق وتوفير المعلومة الصحيحة والتي من دونها، لا يمكن فهم ما يجري حولنا من أحداث وانبثاقات وتحولات لا نهائية. صحيح، إن الصحافة التقليدية (الورقية) قد تقلص دورها بفعل المعطيات التي أفرزتها الثورات العلمية وبنحو خاص في مجال تقنية الاتصالات، والتي أوجدت ما صار يعرف بـ (الإعلام الجديد)، إلا أن وظيفتها الأساس؛ تعقب أثر المعلومة وتقديمها للمتلقي، ما زالت هي الدافع الأساس لكل أشكال الإعلام التقليدي منه أو الجديد. هذه الوظيفة الحيوية والخطيرة لوسائل الإعلام بأشكاله شتى، أثارت حولها شتى ردود الأفعال والمواقف، فكما تستفيد شرائح واسعة من تلقي المعلومة الصحيحة وبأسرع وقت ممكن، هناك قطاعات وفئات تتضرر من ذلك، لذلك لم تبق مكتوفة وحيادية تجاه ذلك، مما أدى الى ظهور نوع من وسائل الإعلام، تسخر كل إمكاناتها وجهودها كي تعرقل وصول المعلومة، أو تتلاعب بها بشكل يفرغها من محتواها الأصلي، لتفقد في النهاية قيمتها الفعلية. هذا النوع من وسائل الإعلام التي تمارس دوراً مغايرا ومتنافرا والوظيفة الجوهرية لما يعرف بـ (السلطة الرابعة)، ينمو ويزدهر في مناخات الاستبداد والاغتراب عن العالم المحيط، كما حصل في بلدنا طوال أكثر من أربعة عقود لهيمنة أحد أكثر الأنظمة شمولية وإجراماً. واليوم وبالرغم من مرور عقد ونصف على زوال الحقبة المعتمة في تاريخنا الحديث، إلا أن آثاره الوخيمة ما زالت فاعلة ولا سيما إرثه وتركته في الإعلام بأشكاله المختلفة والمتعددة. ومن سوء حظ العراقيين ان تتلقف مقاليد أمور ما يفترض أنها مرحلة للعدالة الانتقالية؛ طبقة سياسية لا تجد في ذلك الإرث السيء وتقاليده وفلوله وملاكاته المعطوبة، معيقا أمام مستلزمات الانتقال صوب الديمقراطية والدولة الحديثة، لا بل نجد الكثير منها قد استعانت بذلك الحطام في بناء إقطاعياتها الإعلامية، والتي لم تبخل بقسطها في مجال شرذمة الوضع السياسي والاجتماعي، ودفعه الى مستويات لم يعرفها العراقيون من قبل.
إن دور “دغل الإعلام” فيما انحدرنا اليه، لم يعد مجهولاً ويمكن تلمس نفوذه وتقصي آثاره، في انحطاط الوعي والدور الذي تلعبه الإشاعة والخطابات الديماغوجية والأخبار الملفقة في تحريك الحشود وسوقها الى المسارب الخطرة والكارثية أحياناً. إن احتياطات الضحالة في الوعي والذائقة والسلوك، هي من تمد هذا الدغل بكل أسباب الديمومة والبقاء، لذلك تبتعد تلك المنابر الإعلامية عن كل ما له علاقة بالوعي والفضول المعرفي والعقلانية وبرامج التوعية والتنوير، ليحل بدل ذلك طفح هائل من برامج الشعوذة والتضليل والتهريج، وغير ذلك من النشاطات المبرمجة التي تحرص على بقاء واستمرار مناخات التشرذم والغيبوبة والضياع. صحيح ان مرحلة ما بعد زوال النظام التوليتاري، قد شهدت ظهور كم هائل من الصحف والمطبوعات وعشرات الفضائيات والإذاعات والمنابر الإعلامية من شتى الوظائف والأشكال، إلا أن غالبيتها المطلقة، تفتقد للدوافع والمعاني السامية التي وجدت من أجلها (السلطة الرابعة) بسبب من عدم استقلاليتها وتبعيتها للقوى والفصائل التي تغولت زمن النظام المباد أو بعد الحوسمة الشاملة لأسلابه، مما أتاح لدغل الإعلام من ان يشكل مصداً واسعاً أمام حاجاتنا الأساسية؛ الحقائق والوعي والمعلومة الصحيحة…
جمال جصاني
المعلومة ودغل الإعلام
التعليقات مغلقة