محمد زكي ابراهيـم
منذ أكثر من قرن ونحن نقرأ عن الصراع بين الشرق والغرب، أو القطيعة بين الماضي والحاضر. ونتبادل التهم في ما بيننا، دفاعاً عن هذا الطرف أو ذاك. وكثيراً ما دخلنا في لجاجات ومعارك، انتصاراً لأحد منهما على الآخر. حتى أن كثيرين في أنحاء أخرى من العالم، تخيلوا أن النزاع أصل من أصولنا، والجدل طبع من طباعنا، ولا غنى لنا عنهما في يوم من الأيام.
والحقيقة أننا خدعنا بهذا الأمر، والتبس علينا، حتى صرفنا الطاقات من أجله، وبذلنا المهج في سبيله. مع أن الصلة التي تربطنا به واهية جداً. وربما لا صلة لجيلنا الحاضر به، إلا من ناحية الشكل لا غير!
إن الصراع بين الشرق والغرب يعني الصراع بين ثقافتين متناقضتين. الأولى قديمة متوارثة، والثانية جديدة وافدة. للأولى جمهور كبير يتحمس لها، ويذود عنها. وللثانية حضور واسع يروج لها ويدعو إليها.
ولا شك أن الذين صنعوا ثقافة الشرق، منذ قرون طويلة، ليسوا مسؤولين عن إصرارنا عليها كما هي. ولم يلزمونا بالدفاع عنها مثلما فعلنا نحن. فهي في الأصل صنيعة الظروف التاريخية، وعلاقات الجوار، والحروب، والدين، واللغة وغير ذلك. وكان لكبار المفكرين اجتهادات وطروحات، وآراء ومتبنيات، لا أول لها ولا آخر. وكثيراً ما شغل الناس خلال تلك السنين بالطرح والإضافة، والجرح والتعديل، حتى انتهت الفكرة إلى حالها التي هي عليها الآن.
وقد صنع الغربيون ثقافتهم بالجهد والمعاناة، والفشل والنجاح، والعمل والإنتاج. فخرجت بعد سلسلة طويلة من التجارب والنظريات، والمعارف والأفكار، والعلوم والتقنيات. ولم ينشغل هؤلاء مثلما شغلنا نحن بالجدل والنقاش، والأخذ والرد، والتكفير والتخوين. ولم يحاول إيقاف هذا المد، أو عرقلة تقدمه، أو إحباط عزيمته، حزب أو تيار. فما فعلوه هو أعظم من أن يتصدى له عارض، أو يقف في وجهه جاحد.
ولأن البعض منا اعتنق الفكرة الأولى، وجد في الإخلاص لها، والتمسك بها، فإنه اعتقد أنها تحتاج إلى من يقدم لها الدعم. وعز عليه أن تهاجم في عقر دارها. وهو هجوم ظالم، لأن التاريخ أثبت أنها كانت ثقافة بناء وعمل وحضارة. وأن الأقدمين تمتعوا بحس الانفتاح والاجتهاد والنقد والتحليل. وتمكنوا من استيعاب علوم اليونان والفرس والهنود، وزادوا عليها، من دون أي عائق أو مانع.
أما البعض الآخر فرأى أن الثقافة الغربية هي وحدها التي تستطيع أن تنقذنا مما نحن فيه. ولا بد لكي ننهض من جديد أن ننشر الوعي العلمي والتفكير العقلاني، ونتخلص من كل العادات والقيم والأفكار التي تبناها القدماء.
وبالطبع فإن الصراع بين الفكرتين يجري على أيدينا نحن. ونتقاذف – نحن – أيضاً الشتائم والمعارك بيننا، ثم نذهب إلى حروب وصراعات دموية في ما بعد.
وما جرى لدينا بعد حرب حزيران 1967 أوضح دليل على أننا نختصم على أشياء لم نصنعها نحن، بل على أشياء صنعها الآخرون.
ولو كنا منصفين لصنعنا ثقافة جديدة، عبر النزول إلى الحقول والمصانع والمدارس والجامعات والأسواق، وقمنا بإنتاج ما نأكله وما نشربه، وما نلبسه وما نتعلمه. وضربنا صفحاً عن الصراع بين الثقافات أو الصدام بين الحضارات. فثقافة أي شعب ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقدرته على استهلاك ما تنتجه يداه، لا اجترار ما ينتجه الآخرون. وحضارة أي بلد تعتمد على ما يقدمه أبناؤه لا على ما يرد إليهم من الخارج. وغني عن البيان أننا لم نفعل كل هذا، ولكننا اختصمنا في ما بيننا على الفكرة، إلى درجة القتل والإلغاء والتهميش والبذاءة.