يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 20
حوارات مع جرجيس فتح الله*
ان تكريم مشاهير الرجال يتأتى في نظري من احد امرين اما سعيا وراء حظوة ,او جرا لمنغم سياسي او غيره , او ابتغاء ذيوع صيت , وكسب شهرة . واما بدافع من وفاء او اعتراف بالجميل , لقاء فضل او منة خالصة من القلب ولوجه الله كما يقولون . ولا غرابة في ان الباعث الى فكرة تكريم عبد الناصر هنا هو بسبب ما عزي اليه من مساندة للقضية الكوردية في العراق كما ذكرت في سؤالك . بالاحرى لمواقف معينة وقفها ازاء الثورة الكوردية وتطلعاتها حسبت له مكرمة ودينا في عنق الشعب الكوردي واجب الاداء .
وانا لا استطيع في جوابي حول احقية هذا القائد السياسي بالتكريم من هذه الناحية دون التطرق الى ناحية رد الفعل الذي سيخلفه هذا في اوساط واسعة سياسية وحكومية . ومحافل ذات خطورة لرجال الفكر والقلم . بل في فضاء رحيب للرأي العام في البلاد الناطقة بالعربية –على ضوء الاثار العميقة التي خلفتها سياساته وطموحاته في تاريخ هذه الاقطار –فعلى اولئك الذين يروجون لفكرة التكريم . اقناع هذه الاوساط الواسعة بأن ما يفعلونه حسنا وانهم سيجدون من عملهم هذا تجاوبا ولا اقول رضا او تشجيعا لا سيما في مصر نفسها والحكومة والشعب هناك يكرهان الان ان يذكرهما احد بفترة حكمه .
ولا بد في تقدير ما يدين الشعب الكوردي وقضيته له . وبهذه المناسبة تعطى اهمية خاصة , بل ركنا مركزيا حول حسن استقبال الزعيم المصري السيد البارزاني وهو في طريق العودة الى الوطن من المنفى والتعامل مع الصورة التي التقطت للاثنين تعامل الايقونات المقدسة حتى ليبدو وكأن الزعيم المصري متفضلا على البارزاني وعلينا . وهي نظرة سطحية مبعثها ذلك الشعور الحاد بالنقص الذي يستولي على طائفة كبيرة من مثقفينا والمنشغلين منا بالقضايا الوطنية والعامة , فنحسب كل ايماءة عطف او ابتسامة او حفاوة نلقاها من غريب , فضلا كبيرا ودينا ويجب ان يدفع عنه مقابل . ولو تفضلت معي في جولة قصيرة للاحداث التي سبقت هذه فلربما استطعت ان تتوصل الى جواب صحيح عن هذا السؤال من تشرف بمن؟ البارزاني الذي باللقاء مع عبد الناصر ؟ ام ان عبد الناصر الذي تشرف بلقاء البارزاني ؟ ومن كان المستفيد من اللقاء على الصعيد السياسي ؟ البارزاني ام عبد الناصر ؟
في العام 1943 كانت انباء الانتفاضة الوطنية التي قادها ملا مصطفى بتأييد الاحزاب السرية الكوردية يحظى بأهتمام وكالات الانباء العالمية برغم غلبة انباء وقائع الحرب العالمية . وفي مصر بصورة خاصة . صدرت كراريس وكتب حول النظام النضال الكوردي , ولمع اسم هذا الزعيم الكوردي بنحو مفاجئ , حمل بعض الاقلام الشهيرة في مصر على تناول القضية الكوردية بعمق . وهو ما سأتعرض له بعد قليل . وفي العام 1945 و 1946 و 1947 لم يعد اسم البارزاني مجهولا في الوسط السياسي , وفي صالونات صانعي القرارات المصيرية في العالم سيما بعد المسيرة الكبرى التي قادها بنجاح منقطع النظير خلال قوات ثلاث دول اطبقت عليـه .
وفي العام 1958 وهو موعد عودته الى العراق بدا زعيم قومه الذي لا ينازع فيه – من خلال تلك التقارير التي كان عبد الناصر يتلقاها من العقيد (عبد المجيد فريد ) الملحق العسكري لسفارة الجمهورية العربية المتحدة (سنرمز لها فيما بعد بالاحرف الاول الثلاثة من اسمها ظ0ج ع م)- ملاحظة المحرر : ومدى الاستعداد الذي يتهيأ له قومه لاستقباله بعد غياب اثني عشر عاما تقريبا . لم يكن عبد الناصر قليل فطنة ليدع فرصة مصافحة زعيم كهذا تفوته ولا ان يدع سبيلا كهذا للتقرب من شعب سيكون عما قريب جزءا من إمبراطورتيه بعد ضم العراق , هذا الرجل قضى اثنتي عشرة سنة منفصلا تماما عن ابناء وطنه فلم تنل السنوات الطوال شعبيته بل زادتها عمقا وتعبيرا وكاد يكون الوحيد بين القادة من هذا الصنف فلما قضت السجون والمنافي على شعبية قادة كثيرين . واني بهذه المناسبة اذكر موقف اثنين من ضباط الصف الكورد في الجيش العراقي ايام كنت مدعيا عاما عسكريا في العام 1947 . وقد سيقا متهمين امامي بسبب العثور على صورة ملا مصطفى لديهما .
في ذلك الحين بدا لعبد الناصر ولكثير من المراقبين السياسيين ان مسـألة ضم العراق الى (ج ع م) هي مسألة وقت ليس الا – او هكذا كانت وسائل الاعلام نروج له قبل سقوط عبد السلام محمد عارف – فالمنطق والسياسة العملية كانت تدفع عبد الناصر الى الاحتفاء بهذا الزعيم الطبيعي لا لمليونين ونصف مليون كوردي عراقي بل على صعيد كوردستان المجزأة وبتقويم هذه المعطيات لا اخالك عاجزا عن الاستنتاج بأن الرئيس المصري كان احوج الى انشاء هذه الرابطة مع الزعيم الكوردي لان فيها – على المدى القصير او الطويل – مصلحة سياسية وكسب لا يتوانى شخص مثله عن اطلابه سيما وانه لا يكلفه اكثر من ضيافة وصورة .
وكل مواقف عبد الناصر التي تلت ازاء القضية الموردية حتى ختام حياته كانت مواقف املتها عليه مصلحته السياسية الانية يعينها بالدرجة الاولى نوع علاقته بحكام بغداد المتعاقبين . وكانت دوما عرضة للتقلب وليس فيها شيء يمت الى مثل عليا يملكها هذا الرجل او عقيدة شخصية ثابته.
والحظ هنا يسعدني اذ اجد لذاكرتي نصيرا من فصول للكتاب الذي اقوم بأعداده حول القومية العربية جئت به معي , وسأقتنص منه النصوص التي لا مناص من اثباتها هنا .
فأقول اولا . حاولت جهدي سنوات اثر سنوات من التعقيب لاجد لعبد الناصر تصريحا ملزما عن القضية الكوردية وعن مستقبل النضال الكوردي في اطار رأيه , فلم اجد افضل من هذا التصريح الغريب الذي نقلته وسائل الاعلام القاهرية اثر لقائه بملا مصطفى :
“من حق الكورد التمتع بحقوقهم المشروعة ضمن اطار الدولة العراقية,وتبعا ضمن اطار الوحدة العربية الاوسع . ذلك لان للعرب عدوا خطيرا واحدا يهدد مستقبلهم وامنهم ومصادر ثروتهم وهو اسرائيل وان عليهم ان يوجهوا قواهم العسكرية ومواردهم الاقتصادية كافة لدرء هذا الخطر ” . ثم نشرت له جريدة لوموند الفرنسية في كانون الاول 1963 قولا مشابها اراد به ان يغمز قناة عبد الكريم قاسم خصمه , فقال : “ان الحرب الكوردية القائمة اليوم في جزء من الوطن العربي و انما هي اضعاف للجبهة ضد اسرائيل “. فترى عبد الناصر هنا يعتبر كردستان جزءا من الوطن العربي .
ثم وفي اوائل العام 1959, رأت العلاقات بين (ج.ع.م) وبين الاتحاد السوفياتي ترديا مطردا . وراح خروشوف وعبد الناصر يتبادلان التهم والعبارات الجارحة في الرسائل والخطب العامة . واتفق انه وصل في السادس عشر من نيسان اللاجئون الكورد من الاتحاد السوفياتي مع اسرهم وهؤلاء هم الذين صحبوا الزعيم الكوردي الى المنفى . وعندها وكجزء من الحملة الاعلامية بين عبد الناصر وموسكو بدأ راديو القاهرة هجوما كاسحا مستهدفا هؤلاء القادمين : وهذا هو كما سجلته في حينه :
“هؤلاء الكورد السوفيات (!!) الثمانمائة الذين وصلوا العراق , بكامل اسلحتهم (!) وعدتهم الحربية والمدربين على حرب الانصار , هم الان في طريقهم للانضمام الى قاسم وحلفائه الشيوعيين , للتصدي للقومية العربية واعلان الحرب في سبيل القضاء على عروبة العراق وابعاده عن اشقائه العرب” .
وفي صباح يوم 9 اذار اصدر البارزاني نداء لاعضاء وانصار الحزب الديمقراطي الكوردستاني بالانحدار الى الموصل دفاعا عن انفسهم ضد التعصب القومي العربي ” هكذا ورد في النداء . وكان من اثار ذلك النداء حملة شعراء من صحافة (ج ع م ) ووسائل اعلامها حفلت بأقذع السباب والشتائم ضد الزعيم الكوردي وحزبه وانصاره يخجلني حقا ايراد بعضها هنا وهي كثيرة وكثيرة .
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012