منذ نهاية الحقبة الملكية غابت مظاهر الدولة العراقية التي بنيت عبر اكثر من خمسين عاماً.. دولة اشترك في وضع لبناتها الاولى نخبة من الكفاءات العراقية استمدت من الغرب خبراته المؤسساتية في تدوال السلطة وتعددية صنع القرار واقتراح الافكار ومن الشرق الحفاظ على هوية الشعب العراقي الدينية والقومية والمذهبية وانصهارها في عملية سياسية منفتحة على كل الاتجاهات ..ومن يطلع على تاريخ العراق الحديث سيلمس ان العراق رسم خلال الحقبة الملكية ملامح دولة عصرية حديثة كانت انموذجاً لدول المنطقة وشكلت عاملا مهماً لاستقرار الشرق الاوسط عبر احتضان العراق لفعاليات سياسية دولية بمشاركة الدول الكبرى آنذاك.. وكان نجاح رئيس وزراء العراق نوري السعيد في التعاطي البراغماتي مع محيط العراق العربي والاقليمي والدولي نقطة انطلاق لبناء علاقات متينة مع شتى الدول التي كانت تقودها انظمة حكم متنوعة تمتد من اليسار الى اليمين …!! وبموازاة ذلك شرعت الدولة العراقية بمساعدة الغرب والاستعانة بنماذج خطط التنمية الحديثة في وضع قاعدة واسعة لبناء المؤسسات العراقية الحديثة والنهوض بواقع البلاد الخدمي وارساء المشاريع الأستراتيجية الكبرى وظهرت في بغداد لاول مرة معالم شاخصة كالطرق الحديثة والجسور والمستشفيات الضخمة كمدينة الطب ومباني الوزارات والمصارف وغيرها بتخطيط وتنفيذ من مجلس الاعمار آنذاك.. ويسجل للنظام السياسي الملكي في العراق قدرته ونجاحه في الحفاظ على العملية الديمقراطية ورفضه لاي مساس بالتجربة العراقية حتى مع وجود اخفاقات واضحة في هذه التجربة تمثلت بوجود محاولات للتضييق على الحريات العامة وخاصة حرية الصحافة وبرغم ذلك بقيت هذه الحقبة في العراق وماتلاها لبضع سنين في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم من اغنى واخصب الحقب لبناء وديمومة الدولة العراقية الحديثة.. ومنذ استيلاء نظام البعث على مقاليد السلطة في العراق اختطفت الدولة العراقية واصبحت رهينة اهواء سلطة الحاكم واستبداد الحزب الواحد واستئثار العائلة الواحدة والمدينة الواحدة بمقدرات البلاد وهاجرت عشرات الكفاءات ممن أسهمت في بناء هذه الدولة هرباً من بطش هذا النظام.. وتعرضت مؤسسات هذه الدولة الى انتهاكات واسعة من خلال تطويعها للنظام الحزبي السياسي المقيت على حساب الكفاءة والمهارة والاداء الحر وحلول المحسوبية والمنسوبية والعشائرية..!! ومنذ سقوط النظام السابق مروراً باكثر من عشر سنوات لم تستطع الحكومات المتعاقبة في العراق على استرداد الدولة العراقية الحديثة التي كانت مثالا حياً وناجحاً في المنطقة بنجاحاتها وانجازاتها التي نعم بها اكثر من جيل عراقي وبقيت شواهد عمرانها شاخصة حتى اليوم وما تزال تجربتها في تداول السلطة وازدهار الحريات العامة في ظل تطبيق الدستور العراقي وحماية البرلمان لهذا الدستور ولهذه التعددية ولعبت الصحافة دورها المعهود ومراقبتها لكل الانتهاكات والتجاوزات وفضحها وتصويبها ما يزال كل ذلك يذكر في المحافل الدولية وفي صفحات التاريخ السياسي لبلدان الشرق الاوسط والمنطقة وانطلاقاً من ذلك نوجه عناية السيد رئيس الوزراء الجديد حيدر العبادي وكابينته الحكومية والبرلمان للعمل على استرداد الدولة العراقية التي ضاعت ملامحها او ضيعت في فترات مظلمة بمساعدة معاول الهدم التي تسللت الى العراق ولتكن المرحلة المقبلة مرحلة اعمار وبناء ماهدمه وخربه الدخلاء والحاقدون والفاسدون والجهلة …!!
د.علي شمخي