«وشم لذكرى وجه».. إدراكية فكّ شيفرات النصّ الدالّ تخييلياً

حامد عبدالحسين حميدي

( وشم لذكرى وجه ) (1) للشاعر عمران العبيدي (2) ، عنونة المجموعة الشعرية تمثل عتبة أولى لفهم النصّ الداخلي / المتن .. عتبة اشارية تحمل بين طيّاتها رمزاً دلالياً ذا بعد ايحائي يتجسم بالشكل الماهي الذي يوقد فينا لحظة خاصة من التجمّع البؤري لماض ٍ حاضر من الذكرى المتجذّرة في طيات ذاكرة لم تستطع الانفلات من مخيلتها تلك الرؤى الحالمة . ( الوشم ) يحيلنا الى الخطوط والرسوم المطبوعة بتشكيلية فنية مخضرّة بتراكمات لا يمكننا إلا ان نكون في ظل انعكاساتها التوليفية .
على مقربة من حلم
أو دونه
شجرة بهاجس اعزل
يافطات ملت اتكاءها
وجدار يحتفل بظل خرب ..
الشوارع
تمزق قمصانها
لاحتضان آخر المارّين
قبل أن يهجرها
الحنين …(3)
هنا الشاعر العبيدي ، يقف عند لحظة احتضار الاشياء وهي تنفض ما عليها من رؤية باطنية مجسّمة .. فـ ( الحلم ) يشكل تخيلياً باطنياً لرؤى مكتظة بالأفرازات المتشكلة ، حيث يكون مرتكزاً لعوالم الذكرى ( الماضوية ) المهروسة في حلم ( مستقبلي ) مع عناصر نفسية ضاغطة متوالدة ، وهي تقع فريسة لواقع ( الحاضر ) بالاضطهاد والقسوة والمعاناة ، لتشكل انفتاحية لتيار الوعي الباطني التخييلي بعملية الاسترجاع الفاعل .
( شجرة بهاجس اعزل ) هي صورة تيبّست فيها معالم الجمال والتخييل ، نجد فيها نوعاً من العزلة والانكفاء والانطوائية ، كذلك مقطع ( يافطات ملت اتكاءها ) هي بؤر جامدة غير متحركة ولا تستطيع ان تغير مما هي عليه ، لأنها تقع ضمن ثبوتية المكان النفسي ، ثم ( وجدار يحتفل بظل خراب ) ما هي إلا اصرار الشاعر العبيدي على متابعة الحالة النفسية التي وصلت الى حدّ لا يمكن الخروج منه إلا بمتأزمات نفسية ضاغطة وتنسجم مع البعد الدلالي ، يؤكد الدكتور مصري حنورة ان اصدار حكم على قطعة ادبية : « هو بمثابة اصدار حكم سيكولوجي يخص موهبة المبدع ويخص قدرته الابداعية على وجه واحد « (4)
أناملي
التي تتحرك بشقاوة
حيث حدائقك
ورغبة الحصاد
تتربص لحظة التألق
يلامس امنيات الليل
يندلق الماء
في ساقية الانتظار
برداً وسلاماً لمرايا اللهفة .. (5)
استطاع الشاعر العبيدي ، أن يحرّك مجساته التي وظّفها في سبيل أن تلتقط كلّ ما يحاول ان يصل اليه ، فـ ( تتحرك بشقاوة / رغبة الحصاد / لحظة التألق / أمنيات الليل / يندلق الماء / ساقية الانتظار / مرايا اللهفة ) هذه التراكيب حملت بين ثناياها رغبة في التغيير والخروج من الثابت الى المتحرك ، كون الشاعر يقع ضمن فضاءات الدهشة والاستغراب في الممكن الحاصل القريب ، مدارات لم تزل تقع ضمن مسافات ايصالية تحمل شيفرات لترددات النبض ، حيث تلتقي بتدرجات فعلية متناسقة : ( تتحرك / تتربص / يلامس / تندلق ) لتمنحنا القدرة على معرفة العناصر التي تعود الى منشأ نفسي ، وهي كثيرة ومتزاحمة لدى الشاعر .
أرزم ترانيم خطواتك
في علبة الرحيل
لم يعد في الحبّ متسعٌ
نوافذ لهفتي
تبعثرت عند الشرفات
وأنا
أرقب الضوء المندلق
من صوتك الباسق
كالنخيل … (6)
ان الاشتغالية البوحية لدى العبيدي اخذت مدراج انمائية مغايرة ، حيث يبدأ الشاعر بسيميائية متكوّرة وضمن تقنية محدّدة ، هو يحاول أن يضفي عليها فروضاً قرائية تتباين على وفق معطيات القارئ الفاعل / المتلقي .
( علبة الرحيل ) تشكل مفردة ( الرحيل ) شبكة من دلالات ، تتوزع ضمن أفقية وحسب الرؤية الخاصة للمتلقي / القارئ ، لكنها تنصب في معنى التنقل وتغيير المكان … لكن مفردة ( علبة ) اكسبتها بعداً دلالياً محدداً ، فهنا / يبرز الضيق المكاني والانحصار في الثابت ، وهذا متعلق بالدلالة الزمنية للفعل ( أرزم ) لما بينهما من تشاركية في الاندماج الدلالي المتمحور في الـ ( أنا ) التي كانت حاضرة ضمن ترقب تحفيزي .
كما الموائد عارية
حين غادرت افواه الجياع
تلك
فهارس وجهي
تأريخ ممدد في العراء
رثاء المسافات اليك
قلق الوقت وهو يستحمُّ
بأغنيات الانتظار … (7)
ما بين تركيبي ( الموائد العارية ) و ( فهارس وجهي ) دلالات تشاركية مملؤة بالفراغات العارية ، وهي تعطينا فرصة الولوج في سبر اغوار المضمر والمستور في الكشف عن ماهيات النفس المتخمة بالعراء والتصحر الباطني ، فالشاعر العبيدي .. يقتنص كل بواطن الظلّ ، انه شاعر يعرف كيف يتحرك ضمن مدارات النصّ ، لتتوسع لديه الرؤى الحالمة بالخطاب المرسل ، فالجمع لديه يعجّ بالعراء : ( الموائد / الافواه / فهارس الوجه / التأريخ / الوقت / الاغنيات ) ، هكذا يتنقل ضمن قلقه المهووس بالانتظار .
صعوداً
نحو أول الارتباك
وقوفاً
عند آخر المحاولات
اتبعثر مزدحما باللهاث
اتحرك
مثل طوابير مرتبكة
بانتظار مفردة ضاعت
في صخب الغبار … (8)
القلق النفسي ، يعكس انطباعات الباطن المخفي لدى الشاعر ، اذ إنه يولد نتيجة تأزم يمثل مرآة نرى فيها كل ما يدور في خوالجنا من صخب وهوس وضياع ، لا بدّ من معرفة القوة الضاغطة علينا لكي نستطيع فكّ شيفرات النصّ ، فالشاعر يبرز حالتين ( الصعود / الوقوف ) و ( نحو اول الارتباك / عند آخر المحاولات ) هذا التناقض المتماهي في بعثرات النفس المتداخلة في حراكها الضاجّ شكّل لدينا صورة دلالية لـ ( طوابير مرتبكة ) وهي تتناسق وعلى وفق المعطيات التي تحاول الانفلات مما هو ضاغط لمدركات الحسّ الباطني .

………………………………………….
(1) وشم لذكرى وجه : عمران العبيدي ، دار الرواد المزدهرة ، اصدارات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق ، الطبعة الاولى 2017 .
(2) عمران العبيدي : عمران جاسم علي ، تولد بابل 1964 ، شاعر وكاتب وصحفي ، بكالوريوس اعلام / قسم الصحافة من كلية الاداب ، جامعة بغداد / 1985-1986 ، عضو اتحاد الادباء والكتاب العراقيين ، عضو نقابة الصحفيين العراقيين ، عضو اتحاد الصحفيين العرب ، عضو اتحاد الصحفيين الدوليين ، عمل صحفيا في قسم التحقيقات ورئيساً لقسم آراء وأفكار لجريدة الاتحاد البغدادية ، كاتب عمود صحفي ، نشر العديد من المقالات في الصحف العراقية .
(3) قصيدة اوراق لعورة الخراب .
(4) ص 44 ، اتجاهات النقد الروائي المعاصر د . مصطفى عبدالغني ج 1، مصر
(5) قصيدة وإذ دهشتك متأخرة .
(6) قصيدة فائض القيمة .
(7) قصيدة دمعة بأفواه الجياع .
(8) قصيدة … مكتظ باللهاث .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة