من دون أدنى شك لا يختلف واقع الثقافة والإعلام عن بقية المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلد، فالتدهور والعجز في النهوض بحالها المزري يوحدها جميعاً. لكن ما يجعل هذا الحقل (الثقافة والإعلام) أشد أهمية وفتكاً؛ كوننا نواجه ما يفترض أنها مرحلة للعدالة الانتقالية، وفيها يتصدر هذا الحقل الحيوي رأس أولوياتها، لأنه المسؤول عن صنع وترويج المعنى الجديد لهذا التحول صوب الديمقراطية والحداثة والتعددية. لكن ما الذي جرى عملياً منذ “التغيير” حتى هذه اللحظة ونحن نقف على مشارف العام 20018..؟
لقد برهنت المعطيات والأحداث لا عن عجز “أولي الأمر الجدد” عن النهوض بهذه المسؤولية (وعي المعنى الجديد للتحولات) وحسب، بل عن عدائهم السافر لكل ما يمت بصلة لمنظومته المادية والقيمية، وبمقدورنا تقصي ذلك من خلال المخلوقات التي تبوأت المفاصل الحيوية لهذا الحقل (التنفيذية منها أم التشريعية وما يتبعها من نقابات ومنظمات مهنية و..) فوزارة الثقافة على سبيل المثال لا الحصر تقلدها عدد من جنرالات الشرطة والجيش المتقاعدين ورجل دين تبين لاحقاً أنه إرهابي وقاتل، وغير ذلك من نماذج يمكن أن تصلح لكل شيء إلا الثقافة والإعلام. مثل هذه المواقف المتواصلة الى يومنا هذا، تعكس وجود عمل ممنهج مهمته صيانة واستمرار الخراب الشامل الذي تركه النظام المباد في حقلي الثقافة والإعلام، ولا نحتاج الى جهد كبير كي نتأكد من نوع الملاكات التي اعتمدت لإنجاز ذلك، حيث يشكل حطام المؤسسات التابعة للنظام المباد جسمها الأساس، مع تنصيب حفنة من مدللي ومحظوظي الكتل المتنفذة على رأس إداراتها العليا، لنحظى بما نشاهده اليوم من مآثر وفتوحات ثقافية وإعلامية.
إن ما يجري اليوم من عمليات نهش متبادل بين متعهدي مؤسسات هذا الحقل، لا علاقة له بأية مشاريع أو تطلعات جادة لإصلاح واقعه المزري، بل هي امتداد لمتطلبات المحاصصة والمصالح الفئوية الضيقة المهيمنة على المشهد الراهن، وكل واجهات الحرص التي تدعيها هذه الأطراف، لا تصمد أمام ما أفرزته ممارساتهم وتوجهاتهم الفعلية المبرمجة سلفاً. إن التعرف على مدى واقعية وجدية أية ادعاءات للتغيير والإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي؛ يظهر من خلال ما يحصل في هذين الحقلين (الثقافة والإعلام)، لأن التحولات المنشودة تولد وتتشكل في ورشهما ثم تنتقل لبقية الميادين، وما يجري فيهما حالياً لا يوحي بوجود مشاريع جادة على طريق التغيير والإصلاح، لا شيء غير إعادة تدوير الملاكات والعقليات والعطابات نفسها، ولهذا لا يمكن انتظار بضائع مغايرة لما عهدناه من ترسانتهم المثقلة بالدقلات والمزاودات والديباجات الرنانة. قد تبدو هذه الصورة عن واقع الثقافة والإعلام؛ شديدة التشاؤم والسوداوية، لكن المشهد الراهن بكل قسوته وغرائبيته يقف الى جانب هذه الرؤية، لا سيما بعد طغيان نفوذ قوى وعقائد وسرديات وخطابات هجرتها سلالات بني آدم منذ زمن بعيد. ومن يحاول تتبع هذا النفوذ، سيجده يستلقي بكل ثقة واسترخاء على ما نضح عن بركات حقبة “الفتح الديمقراطي المبين” من مؤسسات ثقافية وإعلامية وأكاديمية، حيث حوسمت أسلاب الحرية والتعددية لصالح ما يمكن أن نطلق عليه بـ (دمى الثقافة والإعلام) ووظائفهم التي لا تختلف كثيراً عن مانعات الصواعق، فهم يحرصون على أمن واستقرار مستنقعاتنا المعرفية والإعلامية الراكدة..
جمال جصاني
دمى الثقافة والإعلام
التعليقات مغلقة