شكر حاجم الصالحي
ما الذي اراد أن يقوله مؤلف رواية «رحلة الدوقة انا» من خلال سرده لوقائع متشابكة تقترب من الخيال الذي يثير العديد من الاسئلة عن تفاصيلها الملتبسة واحداثها العجائبية؟ ثم ما الذي دفع الشاعر «حسين نهابة» الى ترجمتها وتقديمها للقارئ العربي، اهي رغبته الشخصية في اشهار عالمها المُتخيل وجعله في متناول القراءة؟ ولنا ان نسأل من هو مؤلفها «جيان مريان»، جنسيته، لغته، منجزه الادبي قبلها وبعدها، ومتى كتبها وبأي لغة وما هي الآراء النقدية التي قيلت فيها زمن صدورها وما تلاه؟ كل هذه الاسئلة تحتاج الى اجابات مقنعة وشافية لكي نكون على بينة مما نقرأ. اعرف شخصياً ان «حسين نهابة» المتخصص باللغة الاسبانية وآدابها يحمل البكلوريوس فيها، وله اكثر من كتاب مترجم عنها، وما يشفع له اقدامه على منجزه هذا -كما يتضح- حبه الفاضح للإسبانية لغةً حيةً ومعرفة اكاديمية بفنونها وقواعدها، اضافة الى ما يشده كمواطن مبدع عربي الى ذلك التراث الاندلسي الذي تركه الاجداد بعد فضيحة عبد الله الصغير وبكاء الامير على ملكه المُضاع. فالوشيجة (العرقية) ممتدة وتسري في دماء «حسين نهابة» والكثير من المبدعين العرب الذين ترجموا وكتبوا عن امجادنا العربية الغابرة هناك. و»رحلة الدوقة آنا» بفصولها المتعددة تقدم كشفاً لحياة مجتمع عاش على متنها، وسنرى ذلك من خلال ما جرى من وقائع واحداث غرائبية وميتات مجانية مجهولة لم يعرف اسبابها والشخوص الذين يقفون وراءها، فهي -الدوقة آنا- مجتمع مصغر يضم شرائح من البشر تتقاطع افكارهم وتختلف درجات وعيهم وانحداراتهم الطبقية وان كانوا من «البحارة» الذين امتهنوا ركوب البحار والمحيطات. وخلاصة «رحلة الدوقة آنا» تبدأ في المهمة الحقيقية كما هو ملموس ايصالها شحنة من السلاح المهرب الى احد طالبيه في الارجنتين لإحداث انقلاب عسكري وتسلم السلطة في بلاده، والتي لم تنجح -الدوقة آنا- في مهمتها هذه:
شقّت السفينة الشراعية المجيدة «الدوقة آنا» والمجهّزة بثلاث صَوارٍ، طريقها في بحر تتلاطم أمواجه بعنف. كانت مزوّدة باثنين وعشرين شراعًا منتفخًا يتوهّج تحت شمس زاهية. كانت تخطّ سيرها باتجاه جزيرة صغيرة تتراءى للناظر قممها العالية جدًّا….
واضح أنّ السفينة الشراعية البائسة لم يكن قد نالها التجديد كثيرًا برغم السنين التي سلختها. وعليه، فلم يكن بالإمكان أن نطلق عليها حتى ولا تسمية «عجوز»
وللقارئ ان يسأل من اين ابتدأت رحلة -الدوقة آنا- والى اين تتجه بحمولتها، صحيح ان اشارات المؤلف تشير بطرف بخفي الى ذلك ولكنه ظل غائماً طيلة الرحلة التي اكتنفها الكثير من المصاعب والتضحيات التي لوّنت اشرعة السفينة وصواريها بدماء بحارتها المغدورين. وعلى امتداد الرحلة التي تجاوزت الشهرين، جرت احداث بين افراد طاقمها تنذر بالشؤم والقلق من المصير المجهول. وقد استطاع مؤلف -الدوقة آنا- «جيان مريان» من صياغة مشاهد مثيرة تجلب انتباه القارئ وتشده الى متابعتها بإدخاله اجواء السحر والخرافة الى متنه الروائي الذي اضاف متعة وتشويقاً لمجريات الرحلة والرواية معاً:
كانت تحوم فوق رؤوس البحّارة الثلاثة، ثلاثة طيور صغيرة بعض الشيء تشبه إلى حد ما طيور السنونو، وإن كانت اكبر بقليل. اثنان منها بنية اللّون والثالث أبيض كليًا.
كان ما يزال أمام المبتدئ بعض الوقت ليقول: «تبًا، لم أرَ مثلهن من قبل أبداً»/ الرواية ص16
وتأخذ الاحداث منحىً صراعياً داخل السفينة اذ تفقد بصورة مفاجئة وغرائبية العديد من بحارتها، من دون معرفة من يقف وراء هذه الافعال الجرمية التي تصعد الاحداث وتثير الكثير من التكهنات والاسئلة عن المصائر المتوقعة، وهل ستنجح -الدوقة آنا- في الوصول الى هدفها النهائي وافراغ حمولتها من الأسلحة المهربة برغم التكتم التشديد على موجوداتها الممنوعة:
شحنة صناديق القبعات في بالبارايسو
قبعات؟ اجل
وهذه الصناديق الاخرى ؟ كانت تحتوي على اسلحة،
اسلحة شحنها مساعد القبطان على متن المركب في نانتس. كان سهلاً عليه، لأنه كان يدير عملية الشحن بنفسه، ولابد انه اقنع المرتابين على انها موجودة بترخيص من مجهز السفينة وتحت ضمانة غوريو الساذج الذي يتفاخر بقيادته لأول مرة. كان مؤملاً ان يجبروا الملازم على الخروج لرؤية اصدقائه، جاهلاً السبب الحقيقي لذلك الخروج. ولو ان العملية سارت كما خططها، لكان احد جنرالات الانقلابات قد تسلم اسلحة… اسلحة يدفع عنها مالاً كثيراً…
وهكذا تفشل -الدوقة آنا- في تحقيق ما جاءت من اجله، مكتفية بخسارات بحارتها وميتاتهم الفجائعية الغريبة. وتنتهي احداث الرواية المشوقة بما اراده لها المؤلف «جيان مريان» وما ترجمه لنا «حسين نهابة». لكن اسئلتنا التي اطلقناها في مفتتح هذه المقالة الانطباعية تظل تنتظر اجابات حاسمة…
وفي الختام :
اتمنى ان يواصل المترجم «حسين نهابة» دأبه في تقديم عيون الادب الاندلسي/الاسباني فهو من القادرين على امتاعنا بما هو جديد وشائق… واحرّض بمحبة على قراءة رواية «رحلة الدوقة آنا» ففيها من المتعة الكثير.