( منذ نشأتِها حتى العام 1992م)
د. عبد الرضا علي
القسم السادس
أمَّا دراسةُ المحروقِ (( في سماءِ الشعر)) فقد نظَّرتْ لثلاثةِ منطلقاتٍ في نقدِ الشعرِ: كانَ الأولُ خاصَّاً بالماهيَّةِ، في حين كان الثاني خاصَّاً بالاجتماعيَّةِ، كما كانَ الثالثُ لصيقاً بالفنيَّةِ.
في المنطلقِ الأوَّلِ يقفُ على عنصرين أساسينِ للشعرِ هما : الموسيقى الشعريّةُ، والدفقةُ النفسيَّة، لكونهِ يرى أنَّ الموسيقى هي من أهمِّ مقوِّماتِ الشعرِ إطلاقاً، فهو لا يتردَّدُ حين يجعلُها (( هي الشعرُ نفسُهُ)) .
أمّا ((الدفقةُ النفسيَّة)) فهي الطاقةُ المتغلغلةُ في أرجاءِ الألفاظِ ؛ ولتوضيحِ ما يعنيه بتلك الطاقةِ يقولُ : (( في عمليَّةِ الانفعالِ الشعريِّ تنتقلُ الأفكارُ والأحاسيسُ إلى الورقِ خاضعةً للألفاظِ، مشحونةً بالخلجةِ النفسيَّةِ المنبثقةِ من أعماقِ الشاعرِ .. وتبقى هذه الخلجةُ النفسيَّةُ مخزونةً في الألفاظِ الشعريَّةِ حتى تجدَ لها محكَّاً من نفسٍ أخرى..وحينئذٍ فلابُدَّ من انفعالٍ، ولابدَّ من انجذابٍ، ولا بدَّ من انتقالٍ، فتتدفَّقُ الخلجةُ النفسيَّةُ منتقلةً من الألفاظِ إلى النفسِ المنفعِلةِ منساقةً بتيَّارِ الخطوطِ ( المغناموسيقيَّة) المنبعثة من المجالِ الموسيقيِّ اللفظيِّ)) .
والمحروقُ في هذا المنطلقِ يؤكِّدُ ما ذهبَ إليه الدكتورُ محمَّد مندور في فكرتِه عن ((الشعرِ المهموسِ)) الذي يمَسُّ أعماقَ النفوسِ بإيقاعهِ، وإيمائهِ..فضلاً عن آراءِ ((برجسون)) التي ترى أنَّ أساسَ الكونِ موسيقى خفيَّة إلهيَّةٌ، وما على الشاعرِ إلا أنْ يقبسَ من هذه الموسيقى فيغمر بها النفوسَ، إلى جانبِ ما ذهبَ إليهِ ((كارليل)) من أنَّ الشعرَ الحقيقيَّ هو الموسيقى الأزليَّةُ التي يسمعُها الشاعرُ من وراءِ الوجود !.
أمَّا منطلقُهُ الثاني(( اجتماعيَّةُ الشعرِ)) فيدعو فيه إلى رفضِ الفكرةِ القائلةِ بربطِ الشعرِ بالمجتمعِ، لأنه يرى في تلك الدعوةِ كذباً، ورياءً تحجبُ وراءها لياليَ حمرا، وأكؤساً دهاقاً، وغوانيَ حساناً، ثمَّ يُشدِّدُ على الرفضِ قائلاً :((من منهم آوى شريداً في بيتِهِ ليلةً واحدةً فقط؟ من منهم لا يهربُ إلى كلِّ سردابٍ أو مغارةٍ لو دعا الداعي إلى سوحِ الوغى ؟ بمَ يختلفُ عنهم الشاعرُ ليحملَ كلَّ هذه الأعباء الثقالِ؟ أفي إنسانيَّـتِه ؟ أفي تركيبهِ ؟ كلا ..فليست هناك مثل هذه الفوارق.))
وهو يرى أنَّ نظمَ القصائدِ الاجتماعيَّة يُحيلُ الشاعرَ إلى مصلحٍ اجتماعيٍّ، أو واعظ دينيٍّ، وليسَ ذلك هدفَ الشعرِ، فيقولُ : (( أمامنا الرصافيُّ، وغيرُهُ كثيرون من دعاةِ الشعرِ الاجتماعيِّ، والسياسيِّ. لقد نظمَ الرصافيُّ وتلامذتُهُ عشراتِ القصائدِ في الأراملِ، واليتامى، والفقراءِ، والعميانِ والمقعدينَ، والمساجينَ،وسوءِ الحالةِ الاجتماعيَّةِ والوطنيَّةِ، والاقتصاديَّةِ، فكانوا بذلك وعَّاظاً وأخلاقيينَ، وشرعيينَ، وساسةً أكثر منهم شعراء ؟ ثمَّ ماذا كانتِ النتيجةُ ؟)). وهو في هذا المنطلقِ يذهبُ إلى ما ذهب إليه (قبله) شاذل طاقة من أنَّ غايةَ الشعرِ ليست إصلاحيَّةً، وبالتالي فإنَّ الفكرةَ القائلةَ أنَّ الفنَّ للمجتمعِ لا تحظى بتأييدهِ مطلقاً.
أمَّا منطلقُهُ الثالثُ ((فنيّةُ الشعر)) فيؤكِّدُ فيهِ أهميَّةَ الخيالِ في النصِّ، وأثرَ التجربةِ الشعوريَّةِ بالإبداعِ، وغايةَ الفنِّ في محصِّـلتهِ النهائيَّةِ.فيرى أنَّ التجربةَ الشعوريَةَ (( واحدةٌ في كلِّ الحالاتِ، إلا أنَّ كلَّ فنَّانٍ ينفعل بها من زاويةٍ معيَّنةٍ فيعبِّر عنها بطريقتهِ الخاصَّةِ شريطةَ أنْ يكونَ هذا التعبيرُ موحياً مُثيراً للانفعالِ في نفوسِ الآخرين، ليعيشوا تجربةَ الفنَّانِ فيتمثّلونها… فقيمةُ الأثرِ الفنيِّ ليست بمدى تحقيقهِ للنظريَّاتِ العلميَّةِ والفلسفيّةِ، أو القضايا الاجتماعيَّة والأخلاقيَّةِ، أو الأغراضِ الوطنيّةِ والسياسيَّة .. كلا.. إنَّما الغايةُ الأساسيِّةُ (الأولى والأخيرة) من كلِّ أثرٍ فنيٍّ أنْ يصوِّرَ لنا تجربةً شعوريَّةً حيَّةً تصويراً موحيَاً مثيراً للانفعالِ، فينقلنا من عالمٍ جامدٍ ملؤهُ الجفاف والألمُ إلى عالمٍ نديٍّ رقيقٍ ملؤهُ الأخيلةُ والمشاعرُ والأحلامُ))، ثمَّ ينتقلُ إلى غايةِ الفنِّ فيراها غايةً خاصَّـةً ذاتيَّةً، لذلك يرفضُ إدخالَ المنطقِ في الفنِّ، منتهياً إلى نتيجةٍ موضوعيَّةٍ جريئةٍ مُنطلَقاً، ومعياراً هي (( إنَّ الفنَّ والمنطقَ على طرفي نقيض، فكثيرٌ من الآثارِ الفنيَّةِ إذا ما حُوكِمتْ محاكمةً عقليَّةً رياضيَّةً فقدت كلَّ قيمةٍ فنيَّةٍ، وسقطتْ من كلِّ حسابٍ، ثمَّ أنَّ رسالةَ الفنِّ ليست وعظيَّةً، ولا أخلاقيّة، ولا اجتماعيَّة، فتلك مهمَّةُ الأديانِ السماويَّةِ، والكتبِ المقدَّسةِ، وقد يقفُ الفنَّانُ مع النبيِّ على صعيدٍ واحدٍ في نظرتيهما إلى الكونِ والحياةِ الإنسانيَّةِ، والمسائلِ الكبرى… ولكنَّهما يفترقانِ في طريقِ أداءِ رسالتيهما))1 ، مختتِماً منطلقاتهِ بالكلامِ على الفنِّ من أنَّهُ إعلاءُ للنفوسِ،وخلقٌ للحياةِ، وتصويرٌ للمُثلِ العُليا، وتحقيقٌ للرغباتِ المكبوتةِ، وتلهُّفٌ نحو الحقائقِ، وارتواءٌ من معينِ الجمالِ، ودفعٌ للإنسانِ نحو الخلودِ، و((تكاملٌ)) في نقصٍ؛ وهو بهذا يضعُ معياراً في نقدِ الشعرِ، وهذا المعيارُ هو فنُّ الشاعرِ ليس غير.
إنَّ هذه المنطلقاتِ التي وقفنا عندَها في البداءاتِ هي التي قادت إلى تكوينِ الأحكامِ النقديَّةِ الرصينةِ في مرحلةِ نُضجِ النقدِ، وكوَّنتْ اتجاهاتهِ، فتبدَّت منها نظراتٌ فكريَّةٌ، ونظراتٌ نقديَّةٌ، وتكاملت بها شخصيَّاتٌ ناقدةٌ بعد ذلك؛ وبهذا نكونُ قد اشَّرْنا ما كان في مرحلةِ النشأةِ ( والبدايات) من منطلقاتٍ في نقدِ الشعرِ، وتسميةِ أهمِّ نقَّادِها.