(2-2)
عبد علي حسن
ويكرس غلاف الرواية مدلولا مؤجلا بعده عتبة اولى متكونة من علامتين ، الأولى لغوية وهي العنوان (احمر حانة) فيما شكلت الصورة الفوتوغرافية الممنتجة والمتكونة من خلفية تشير إلى حرائق وانفجارات بعيدة مستأثرة باهتمام وتأمل المرأة في عباءة سوداء لتشكل هذه الصورة علامة بصرية . وفي الوقت الذي يشكل فيه العنوان دالة لها مدلولها المؤجل اذ يرد في المتن الروائي كمقترح تقترحه العرجاء بعد ارتواء جنسي متخيّل ( خلقته العرجاء وفق رؤيا حلمية ) مع ادريس الصغير على مجموعة من الحانات المصطفة على الشارع الموازي لنهر دجلة .فتختار هذا الاسم(أحمر حانة )لتطلقه على إحدى الحانات ، ولا يمكن إغفال الوضع النفسي للعرجاء اثناء إطلاقها الاسم .ولعل حالة النشوة الجنسية وارتوائها الافتراضي كان وراء هذه التسمية اقترانا بالحانة كمكان يشبع نشوة ما تتصف باللون الأحمر ذو الدلالة المتأججة لتعكس حالة العرجاء بعد رؤيتها الحلمية المفترضة لممارسة الجنس . اما العلامة البصرية فان مدلولها استهلاكيا يتوقف عند حدود تأمل المرأة لمشهد الحرائق البعيد وكأنها غادرته مكرهة بعد ان كان مكانها الأول ..وفي كلا القراءتين للعلامة اللغوية والعلامة البصرية ومن خلال إيجاد القرائن الدلالية مع حيثيات المتن الروائي العجائبي يتضح لنا ان دالة العتبة الأولى بعلامتيها لم تمتلك استقلاليتها الدلالية الكاملة وإنما تتوفر إمكانية تداخلها مع المتن الروائي الذي شكل مدلولا متكاملا لدالة العنوان ..وبمعنى آخر فان المتن الروائي كان المتن الجواني او الموازي لما أفرزته دالة العنوان , وبمعنى آخر فإن ما هو عجائبي وسحري في المتن كان مدلولا مستبطناً لما هو واقعي والذي كونته العلامة اللغوية والبصرية للعنوان ..وهذا ما يمكن أن تقديمه كنص مواز لفداحة اكراهات الواقع الذي لمح إليه العنوان .فيما ذهبت العتبة الثانية (الإهداء ) إلى بث دالة مجهولة او نكرة تضمنتها مفردة (مدينة) على إن الجملة الثانية (إن لم تدخلها، كأنك لم تر الدنيا) محفزة على البحث عن مدلولها وسيتبين ان هذه ال(مدينة) لم تكن سوى (بغداد) بدلالة مركزية هذه المدينة بعدها مكان الأحداث الروائية وفق ما هو واقعي من أمكنة قارة في ذاكرة المتلقي ومتبدية ومحسوسة على مستوى التكون الواقعي لمفردات المدينة .
اذن فنحن ازاء تداخل غريب بين ما هو واقعي شكل نصه بعض الأمكنة والوقائع وبين ما هو سحري /عجائبي / غرائبي شكل نصه الشخصيات المتداخلة زمنيا ، أي استحضار شخصيات من ماض بعيد واخرى من ماضي قريب واخرى معاصرة لتعيش زمن واحد هو زمن ( الفرهود في يوم الصيهود) .
ولعل من الشخصيات التي استدعاها النص الروائي والتي شكلت علامة التبئير/وجهة نظر النص هي شخصية ابن الأثير التي امتلكت حضورا قويا اعتمدها النص في الكشف عن وجهة نظره عبر جهده في إعادة كتابة تأريخ مدينة بغداد بعد اكتشافه بأن ما كتبه في تأريخه لم يكن هو حقيقة هذه المدينة وانما فيه الكثير من التزييف والخداع والكذب وعليه إعادة كتابة تأريخ هذه المدينة وكما يعيش أحداثها حاليا . وهي أحداث تعيد للأذهان ما تعرضت له هذه المدينة من أحداث مروعة اختلط فيها الحابل بالنابل ليصل الى نتيجة واحدة أكدها الراوي العليم :—
( لم يبد الكثير من الأهمية للطريقة التي يحدث فيها الفرهود ، فهو مقتنع بأن الصورة التي تتحرك أمامه هي ذاتها المختزنة في الذاكرة ، لهذا وصل إلى معادلة في غاية الطرافة ، ما يجري ليس بجديد وانه لم يعش زمنين منفصلين ، بل هو حدث واحد مازال متسلسلا …..النص ص 290) على أن هذا التوصل كان من المفترض ان يحصل من المتلقي دون الإشارة من قبل الراوي العليم ..سيما وان بنائية النص تسمح باللعب الحر للأحداث وتوفير إمكانية إشراك المتلقي في الوصول إلى بعض الحقائق هو أمر ممكن جدا في مثل هكذا نوع من الروايات التي تخلو من سببية الفعل بعدها روائية عجائبية أو واقعية سحرية .
كذلك من الشخصيات التي مارست حركة حرة وامتلكت دلالاتها عبر تعالقها مع الشخصيات الأخرى هي شخصيات أصحاب الكهف وكلبهم ، ومن خلال تداخل أفعالها العجيبة والغريبة التي وجد فيها المتلقي نفسه مترددا كما وصفه تودوروف في حالة تلقيه للرواية العجائبية التي يعرفها بأنها تقوم (أساسا على تردد للقارئ — قارئ يتوحد بالشخصيات الرئيسية أمام طبيعة حدث غريب )/ تودوروف/ مدخل إلى الأدب العجائبي / تر: الصديق بو علام ص 199 . ومبعث هذا التردد هو الحيرة والشك على مستوى التأثر والتقبل والاستجابة ، اذ حفلت الرواية — على مستوى بنائها العجائبي — بالصراع بين القوانين الطبيعية ( الواقع/ الفعل/ المنطق/المألوف) والقوانين غير الطبيعية ( الخيال/الوهم/اللامنطق/اللامألوف/ الغريب والعجيب ) وهذا الصراع شكل التداخل البنيوي لاستكمال البنية الكلية للرواية التي وضعت هدفا لها -حسب قراءتنا –وهو تخليق النص الجواني والموازي لغرائبية الواقع .وكذلك تعميق الإحساس بإكراهات الواقع والعنف اليومي المنتهك للوجود البشري الذي يتعرض إليه الفرد العراقي ..
وفي الوقت الذي عد مدخلنا هذا للرواية بمثابة تجنيس بنيوي لرواية (أحمر حانة) بعدها رواية واقعية سحرية/عجائبية /غرائبية ..فإن هنالك أكثر من مدخل على مستوى بناء الرواية كالايروسية وخروجها عن الغرض النفعي أو السطحي للكشف عن مدى الرغبة الجنسية إلى مستوى آخر يشف عن إظهار الشغف الباطني للمظهر الايروسي الذي تشكل عبر الرغبة لدى العرجاء ولإدريس الصغير . كما ان تعدد الرواة و خرق التتابع الكرونولوجي شكلت أيضا مداخلاً بنيويةً على صعيد اللعب الحر في استخدام تقنيات جديدة أكسبت الرواية العديد من مظاهر الإدهاش المتساوق وادهاشية الأحداث والشخصيات حتى بدا الواقع بتبدياته التي طرحتها الرواية و كأنه الخلفية التي ضمت الشخصيات العجائبية و الوقائع الوهمية السحرية .
لقد تمكن الروائي العراقي حميد الربيعي في روايته هذه ( احمر حانة ) من تقديم رواية بالإمكان تصنيفها رواية واقعية سحرية عراقية على سبيل البناء الكلي دون تضمين الرواية اجزاءً عجائبية كما هو حاصل في عديد الروايات العراقية والعربية .