د. ثائر العذاري
حتى سقوط الدولة العثمانية كان العربي يؤمن أنه يعيش في دولة الإسلام التي يحميها الله، بغض النظر عن نوع الحكم وجور السلاطين والولاة، يتنقل بين أقاليمها بحرية ساعيا في مناكبها. وحين زج العثمانيون أنفسهم في الحرب وسقطت دولتهم وتقطعت أوصال دولتهم اكتشف العربي أنه كان يعيش كذبة كبيرة، فما كان يظنه دولة الله انهارت كالجبن الهش خلال أيام، وانهارت تلك المنظومة الثقافية التي قامت على أساس تقديس التراث ووجوب طاعة ولي الأمر، والنظر إلى العالم بثنائية عربي وأعجمي. ومنذ ذلك الحين ابتدأت رحلة البحث عن منظومة ثقافية أخرى بديلة. وكان لأصوات مدافع الأوربيين التي كانت تدك أعماق السلطنة وقع السحر، فقد بهرت المثقف العربي الذي راح يفتش عن أسباب قوة المنتصر ويقلده.
لم تكن القضايا الخلافية، مثل وضع أسماء المخترعات الحديثة في الشعر والدعوة إلى السفور ومدارس البنات، لم تكن قضايا أدبية أو فنية، بل هي صورة واضحة للنزوع نحو خلع بيعة تقليد القدماء ومبايعة الأوربي المنتصر على تقليده. وفي هذا المقال أركز على واحد فقط من مظاهر التقليد الذي يعده مؤرخو الأدب تجديدا ثوريا، وهو ظاهرة الأدب الرومانسي.
مثلت الكلاسية في أوربا صورة للمجتمع الإقطاعي، فالموضوع هو المثل العليا، أما الفرد فهو ليس سوى عضو في قطيع متشابه. كان الشاعر الكلاسي حين يمدح لا يبحث عن صفات شخصية للممدوح، بل يمدح الصفات التي ينبغي أن تكون في الممدوح، صفات المثل الأعلى، وهكذا حين يتغزل يقول ما ينبغي أن يقوله المتغزل.
ومع رسوخ الثورة الصناعية جاءت الرومانسية ممثلة لرفض الطبقة العاملة أن تكون محض تروس في ماكنة الصناعة التي تخرب الطبيعة وتجور عليها من أجل الكسب. انتصرت الرومانسية لذات الفرد ولروح الطبيعة، وكان ظهورها أوائل القرن الثامن عشر ضرورة اجتماعية حسب القاعدة القاضية بأن التغييرات الاجتماعية الكبرى تؤدي إلى انقلابات فنية كبرى.
لم تكن الرومانسية العربية التي ظهرت في المدة ما بين الحربين استجابة لحاجة اجتماعية، بل اندرجت في سياق البحث عن منظومة ثقافية بديلة لتلك التي انهارت بسقوط الدولة العثمانية.
ثمة ظاهرة إبستمولوجية فرضت نفسها هنا، فقد كان جل طموح الشاعر العربي قبل الحرب الأولى أن يقترب بشعره من شعر القدماء، فيقال إن فلانا كامرئ القيس أو إن فلانا متنبي عصره. ولم يحاول مثقفو ما بعد الدولة العثمانية ابتداع منظومتهم الثقافية الجديدة القادرة على تلبية الحاجة الاجتماعية، ولم يستطع دعاة الرومانسية الانسلاخ من مبدأ النموذج، وراحوا بدلا من ذلك يفتشون عن نموذج آخر يتبعونه، وما فعلوه لم يكن سوى استبدال النموذج القديم، فبدل تقليد امرئ القيس وأبي نؤاس والمتنبي والمعري، ذهبوا إلى تقليد شيلي وبايرون وكيتس وكولريدج.
إن مراجعة سريعة لقصائد الرومانسيين العرب من جماعة الديوان وأبولو ومن سار في ركبهم ستكشف بسهولة ووضوح ذلك التناقض الفج بين مبادئ الرومانسية التي دعوا إليها وبين نتاجهم الشعري الذي كان من أبرز ملامحه:
1. بدت كل قصائدهم كما لو أنها لشاعر واحد بسبب تشابه اللغة والأسلوب.
2. كان معجمهم واحدا، وهو معجم فقير يمكن حصره بكلمات مثل البدر الغيم العندليب الشمعة القارب الملاح الدموع الشاعر …..
3. كتبوا كلهم في موضوعات محدودة مثل بؤس الشعراء وحزنهم وربة الشعر والقيثارة والشعور بالضياع.
4. صورهم الشعرية كانت واحدة ومكررة ومستنسخة من الرومانسيين الإنكليز، مثل عاشقين يجلسان في حديقة في ليلة مقمرة أو بلبل سجين في قفص أو شاعر يجلس على عرش في السماء.
تتعارض هذه الملامح الأربعة تماما مع أبسط مبادئ الرومانسية التي سعوا إلى تأسيسها عربيا، لأن رومانسيتهم لم تكن معبرة عن ذواتهم بل كانوا يسعون لأن يكون شعرهم كما ينبغي أن يكون نموذج الشاعر الرومانسي، إنه المثل الأعلى مرة أخرى.
حين كان الشاعر الانكليزي يكتب عن اجتماعه بحبيبته في ليلة مقمرة وسط حديقة مزهرة فهو كان معبرا عن تجربة ذاتية مر بها، أو يمكن أن يمر بها، أما العقاد فقد كتبها تقليدا لذلك الشاعر، إذ لم يكن لمجتمعه أن يتيح له تجربة مثل هذا الموقف، وقل مثل هذا عن موضوعاتهم الأخرى.
كانت الرومانسية العربية استنساخا مملا للمضامين وللغة التي ابتكرها رومانسيو أوربا، وهي إذن لا تنتمي لمبادئ الرومانسية، ولم تكن سوى شكل جديد من الكلاسية. إنها وسيلة اطمأن إليها الشعراء الذين اعتادوا وجود النموذج الأبوي الأسمى الواجب الطاعة. ذلك الأب الجاهلي والعباسي الذي قتله الحلفاء في الحرب العالمية الأولى استبدله الشاعر العربي بأب رومانسي أوروبي.