عراقيو المهجر:

أ.د.مؤيد عبد علي الطائي/جامعة بابل

 

شكى لي بعض الأساتذة المغتربين من الأصدقاء أيام الدراسة ما يعانوا واسرهم من مشكلات، اذ أن وجود أعدادٍ هائلة من العراقيين خارج العراق لم يعد مجردَ ظاهرةٍ ثقافية، ولكنه يُثير قضيةً ثقافية تُلح على أذهان المشتغِلين بالثقافة ووجدانهم. وإذا كان لنا أن نقتربَ من الظاهرة أولًا قبل التصدِّي للقضية؛ فلا بد من التمييز في البداية بين العراقيين المقيمين في البلدان العربية وبين العراقيين المقيمين في البلدان الأجنبية؛ فالفريق الأول يُثير قضيةً تختلف عن القضية التي يُثيرها الفريقُ الآخر؛ لأن أفراده عادةً ما يعودون إلى الوطن ولو في سنٍّ متأخرة، ولأن القيم الثقافية التي يذهبون إليها والتي يعودون بها لا تختلف في النوع عن القيم العراقية، ولكنها تختلف في الدرجة فقط، ومن هنا فإن درجة التحوُّل الثقافي محدودةٌ وإن كانت مهمةً وجديرة بالنقاش المتعمق.

أما الذين يُقيمون في بلدان أجنبية فمُعظمهم مستوطنون لا يعودون إلى العراق إلا للتواصل مع الوطن القديم ولقاء الأحبة والأصدقاء ممن لم تُتَح لهم فرصةُ العمل أو الإقامة بالخارج، أو ممن أُتيحت لهم الفرصة فلم يغتنموها أو لم يقبلوها، أو من الذين أقاموا فترةً محدودة في الخارج للدراسة أو للعمل ثم عادوا. ومعظم المقيمين في البلدان الأجنبية من العراقيين يندرجون في فئة المهاجرين أي الذين رحَلوا من العراق بقصد الإقامة خارجها إلى الأبد، ومعظمهم أيضًا ممن رحَلوا في السنوات الخمس والعشرين الأخيرة؛ أي إنهم من الجيل الأول للمستوطنين ولم يبلغ أبناؤهم بعدُ مبلغ الرجال (بحيث يصبح الجيلُ الثاني راسخَ الجذور في التربة الجديدة)؛ ولذلك فإن الهُوَّة الثقافية التي تفصلهم عن الوطن الأمِّ لم تتَّسع بعدُ بالقدر الذي يجعلهم ينتمون تمامًا إلى بلدانهم الجديدة.

ومبلغ علمي أنه لا توجد لدينا في العراق وزارةٌ أو مؤسسة مكلَّفة برعاية هؤلاء، وهي لا شك مهمة، والمهام المَنوطة بها ستكون كثيرةٌ وحيوية، والجهود التي ستبذلها جديرةٌ بالثناء، ولكن الواقع الذي يعيشه هؤلاء لا تُجْدي في التصدي له جهودٌ حكومية؛ فهو ثمرةُ تراكُمِ أحداثٍ كثيرة وظروفٍ تاريخية لا حيلةَ لأحد في دفعها، وإن كنا نستطيع أن نرسم حدود المشكلة كما تتراءى لنا عن كثب، ولنبدأ بالتسليم بوجودها، فالاعتراف بالمشكلة أول خطوة على طريق التصدي لها (ولا أقول حلها).

والجميع يعرف أن هناك مشكلةً ما عندما تُواجه حيرةَ المغترب الذي تبلغ ابنتُه مبلغ النساء والذي يريد تزويجها من واحدٍ من أبناء جِلدته فيستعصي عليه الأمر؛ إذ يتلفَّت حوله فيجد أن الذكور من أبناء مَعارفه قد ارتبَطوا بأجنبيات، وأن إعادتها إلى العراق بقصدِ الزواج وحده سخفٌ لا مبرِّر له؛ فهو يعني قلقلةَ حياتها العمَلية أو العِلمية أو العائلية، فإذا حدث وكان لها صديقٌ أجنبي يريد الزواجَ منها زادت حيرةُ والدها وربما وافق قائلًا إن سعادة ابنته فوق كلِّ اعتبار، ومُضمِرًا في نفسه أن هذا معناه قطعُ كلِّ صلةٍ بالوطن الأصلي.

والجميع يعلم أنَّ هناك مشكلةً ما عندما يشكو إليك مغتربٌ أن أولاده لا يعرفون العربية، أو أن أحدَهم يُنكر عُروبته، أو لا يحبُّ أن يشير إليها، خصوصًا إذا كانت والدته أجنبية، أو أنه لا يقول عن العراق (الذي زاره مرةً أو مرتين) إلا كلامًا يُثير الأسى والشجن؛ فهو إما غاضب أو ساخر، وكل مقارنة يعقدها بين أساليب الحياة هنا وهناك تَزيد مِن أساه وشجنه.

والجميع أيضاً يعلم أن هناك مشكلةً ما تجتمع مع نفرٍ من أبناء المغتربين الذين لا تربطهم بالعراق إلا زيارةٌ عابرة أو حادثة صغيرة تمخَّضَت عن تجرِبة أليمة في التعامل مع الجهاز البيروقراطي، فانحصرَت معرفتهم بالعراق في هذه التجرِبة، وجعلوا يتَبارَوْن في التندُّر بما قاله ذلك الموظفُ أو ذاك، وما فعله «عبد الروتين» بأوراقهم أو إزاءَ بعض مسائلهم الإدارية، فهم صغارٌ بعدُ لا تربطهم بالوطن نشأة ولا تلاحُم وجداني، وربما وجدتُ من العسير إيضاحَ الحقائق التي تُفسر (وإن لم تكن تُبرر) سلوك هذا أو ذاك، أو تأكيد حقيقة العراق، بعيدًا عن الوظائف والروتين.

وليست المشكلةُ مقصورةً على أبناء الجيل الجديد، ولا هي خاصة بفئة من فئات العمر، بل لا أبالغ إذا زعمتُ أن المشكلة الأولى تكمن في التحول من «العراقية» الكاملة في جيل الآباء إلى «العراقية الاسميَّة» في جيل الأبناء؛ فالصفات التي ارتبطت بصورةٍ تقليدية بالشخصية العراقية — كالطِّيبة، (بمعنى العزوف عن الإيذاء، والتسامح)، والكرم (بمعنى عدم تقديس النقود والقيام بواجب الضيافة، بل وإنفاق ما في الجيب حتى يأتي ما في الغيب)، والذكاء (بمعنى الذكاء العراقي الفطري)؛ أقول إن هذه الصفات تصطدمُ بثقافةٍ غربية لا تكترثُ للقيم التي تكمن وراء هذه الصفات وتؤدِّي إلى صدامٍ من نوعٍ ما بين ثقافة الآباء وثقافة الأبناء.

وربما كانت بعضُ الصفات المرتبطةِ بالمجتمعات الغربية — مثل احترام الوقت (والمواعيد) والعمل والانضباط وما إلى ذلك — لازمةً للجيل الجديد مثلما أفاد منها الجيلُ الأول، ولكنها تصطدمُ دون شكٍّ بما ترسَّب في أعماق العراقيِ من قيم هي جماع مشاعرَ وأنماطٍ وأحاسيسَ تُمثل حصادَ ثقافة القرون الغابرة، والصدامُ يؤدي إلى فجوةٍ هائلة بين أبٍ لاقى الأمَرَّين في سبيل هذه الحياة المستقرَّة في الخارج، وعانى معاناةً هائلة في سبيل تأمين سُبل العيش له ولأسرته، وبين الولد الذي ينشأ فيجد كلَّ شيء ميسَّرًا وأن الحياة أمامه موطَّأةُ الأكناف، فلا يكاد يُحس بما فعله الوالدُ حتى يُهيئها له. ولقد عرَفتُ نماذجَ متعددة من هذا التناقض الذي يشهد بعمقِ المشكلة؛ فجيل الأبناء يميل في حالاتٍ كثيرة إلى نِشْدان المتعة وطلب المسرَّات وقد اختفَت من عيونهم مُثلُ الكفاح والنضال في سبيل العلم وفي سبيل تَسنُّم ذُرا التفوق فيه، أو العمل المضني لإثبات الامتياز وتأمين المكانة المرموقة مثلما فعل الجيل الأول، ورأيتُ الأماكن البارزة التي يَشغَلُها الآباء مُهدَّدةً بأن تصبح شاغرةً إذ لا يستطيع أبناؤهم شَغْلَها، بل ولا يكترثون لضياعها. وهنا لا بد أن أؤكد هذا الاتجاهَ إلى التفوق والامتياز باعتباره من عناصر الثقافة العراقية القائمة على العلم والعمل.

الظاهرة إذن وما تُثيره من قضايا تتطلَّب إدراكًا من جانب الجيل الأول لجميع أبعادها، وجهدًا متواصلًا من المقيمين في الوطن الأمِّ لضمان استمرار صورة العراق بلد الحضارات والتفوُّق والامتياز.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة