الذاكرة والصدمة قراءة الصورة في “قصيدة السبايا بالكفن الأسود” للشاعر محمد مظلوم

الدكتور عادل الثامري

تنسج قصيدة الشاعر محمد مظلوم “قصيدة السبايا بالكفن الأسود” صورا وسردا مجزئا لتخلق تأملاً في الفقد والعنف والبحث عن الذات. وعبر التداخل المركب بين التجارب الشخصية والجماعية، تتنقل القصيدة بين الفضاءات الحميمة والمناظر الصحراوية الشاسعة، بين الذاكرة الفردية والصدمة الثقافية المشتركة.
تعمق الصور السريالية في السطور الافتتاحية هذا الاستكشاف: “أسير إليك، إلي، أعني إلينا. /وحين أصل، أكون قد شربت أممي اليابسة، وغرست وتدا في عيني، سميته قلقي، وزرعت أشجاري في الصحراء السمينة.” ان رحلة المتكلم هي رحلة جسدية ونفسية في آنٍ واحد. تشير التباسات الضمائر (“أنت، أنا، نحن”) إلى تفكك الهوية الشائع في تجارب المنفى. ويتحرك المتكلم نحو شيء خارجي (أنت)، وداخلي (أنا)، ومشترك (نحن)، مجسداً الهذيان الوجودي للمنفى الذي تتلاشى فيه حدود الذات والوطن في وحدة غير مؤكدة.
توحي صورة شرب “أممي يابسة” بالعطش واستهلاك تاريخ النازح نفسه. يشير الفعل السريالي لشرب “أممي يابسة” إلى محاولة لاستهلاك أو المصالحة مع التواريخ المفقودة. كلمة “يابسة” تشير إلى أراضٍ قاحلة ومهجورة، وتؤكد على الجفاف العاطفي والجغرافي للنزوح. صورة غرس “وتد” في العين واسمّاه “قلقي” تنقل بشكل بليغ العذاب الداخلي للمتكلم. وتتحول العين، وهي رمز للرؤية والوضوح، إلى موقع للألم والتوتر غير المحلول. إن زرع الأشجار في “الصحراء السمينة” يقدم تضاداً ساخراً. فالصحارى عادةً ما تكون غير خصبة، لكن كلمة “سمينة” توحي بإمكانية الثراء الكامن. يلتقط هذا
تخلق القصيدة مشهدا للمنفى عبر الصور السريالية المتناقضة. يستخدم الشاعر صورا متناقضة ومشحونة لتعكس التنافر النفسي والوجودي للنزوح:”نفسٌ تتهشَّم عند التقاء سرَّتين، وقلب يلهث للجفاف، أواريك في معاطفي وأعبر الضباب نحو منازل الغرباء وخيام أمي.” تنقل هذه الصور تفتت الذات في لحظة التقاء حميم “التقاء سَرَّتين”. تتحول السُّرَّة، رمز الأصل والولادة، إلى موقع للتفكك بدلاً من الوحدة، وبذلك تعكس إحساس المنفي المتصدع للذات والانتماء. ان التناقض في قلب يلهث للجفاف يلتقط شوق المتحدث للتخدير العاطفي أو الوضوح القاسي للصحراء، اذ لا يمكن للمشاعر أن تتدفق كالماء. هذا التوق الى الجدب يعكس الإرهاق العاطفي للمنفي. ويبرز التوتر بين “منازل الغرباء” (رموز الاستقرار والديمومة) و”خيام امي” (رمز عدم الاستقرار البدوي والمساحة الأمومية المألوفة) ازدواجية المنفى. يصبح الوطن، الذي كان مستقراً وحاضناً من قبل، بعيداً الآن ومختزلاً بـ “خيمة” مؤقتة من الذاكرة، بينما يتنقل النازح عبر تضاريس غريبة مستقرة. يعمل الضباب كحجاب حرفي ومجازي. إنه يمثل عدم اليقين في رحلة المتحدث عبر المنفى – تجوال جسدي يحجب فيه الوضوح.
يجري التأكيد على الإحساس بالنزوح بشكل أكبر بواسطة الصور المتكررة للبحث والتيه “يفتش عن ميقات، وصحيفة وسكين. /الميقات، ليطعمه لخنازير المصانع. /والصحيفة، ليمسح بها نهد أنثى، وله في السكين غاية اليهودي.” في سياقه التقليدي، يُشير “الميقات” إلى لحظة مقدسة أو مهمة، غالبًا ما ترتبط بالعودة أو الخلاص أو التجدد. لكن العبارة الغريبة “ليطعمه لخنازير المصانع” تُقلب هذا الرمز المُتفائل. تُثير صورة “خنازير المصانع” المشهد الصناعي المُتوحش الذ يُهدر فيه الزمن ويُستهلَك ليُغذي الآلات، ما يُمثل اغتراب الإنسان في العصر الحديث، الذي أصبح فيه الزمن مجرد سلعة فاقدًا قيمته الروحية والوجودية. أما “الصحيفة” التي تُعتبر تقليديًا رمزًا للحقيقة والمعرفة والوعي الجمعي، فتفقد وظيفتها عندما تُستخدم في العبارة “يمسح بها نهد أنثى”، اذ تُحوّل وظيفتها إلى فعل حميمي ويومي يُشوّش معناها الأصلي. هذه الصورة تُعارض الطابع العلني والوظيفي للصحيفة، ما يُشير إلى بحث عبثي عن راحة مؤقتة في عالم مُفكك، ويُعبّر عن تآكل المعنى في تجربة المنفى. وتكتسب السكين، بدورها، رمزية أكثر قتامة في عبارة “غاية اليهودي”، التي تُعيد إلى الأذهان شخصية شايلوك في مسرحية “تاجر البندقية” لشكسبير. تشكل هذه الأشياء-الميقات، الصحيفة، السكين- تسلسلًا طقوسيًا يقود إلى العبث وخيبة الأمل. ان تُجرَّد كل أداة من وظيفتها الأصلية وحملها معانٍ مُظلمة يعكس العلاقة المُضطربة للمتكلم المُغترب مع العالم.
تعود القصيدة مرارًا إلى الصحراء كفضاء يجمع بين الأصل والاغتراب: “بيتي، هذا الجنوب، لطخه الشمال، وأفزعه تداخل أزمات التخيل في مِرْآة يعكسها الرمل.” تلتقط هذه الصورة الطريقة التي يشوّه بها المنفى علاقة المرء بمكانه؛ ويصبح الوطن موقعًا للتلوث “لطخه الشمال” بينما يُصبح الرمل مرآة تعكس الواقع وتشوّهه في الوقت ذاته. يستخدم الشاعر الصورة المكانية للتعبير عن العلاقة المُعقدة بين الوطن والمنفى؛ فالجنوب يُحدد هنا باعتباره “الوطن”، وهو ما يستدعى الدفءٍ والأصولٍ والجذور.
في المقابل، يُصوَّر الشمال كقوة خارجية تُسبب التلوث أو التشويه، اذ انه يعكس التناقض بين الجنوب والشمال التوتر بين المألوف (الوطن) والوافد الغريب (غالبًا ما يكون استعارة عن التأثير الاستعماري أو الحداثي). الفعل “لطخه” يُضفي إحساسًا بالانتهاك أو الفقدان، كما لو أن نقاء أصول المتكلم قد تلطّخت بفعل تدخل خارجي. أما صورة “تداخل أزمات التخيل في مِرْآة يعكسها الرمل”، فتُعمق الشعور بالتشويه؛ إذ يتحول رمل الصحراء إلى مرآة مُحطّمة تُشوّه الواقع وتُطمس الحدود بين الخيال والذاكرة. وتشير عبارة “أزمات التخيل” إلى العبء النفسي للمنفى، اذ تصبح حتى الذكريات والهوية غير مستقرة ومُفككة بسبب الهجرة وفقدان الوطن.
وعبر هذه الصور، يُحوّل الشاعر الصحراء إلى فضاء بيني: فهي موقع الأصل (الجنوب، الوطن) والمألوف، وفي الوقت ذاته، تصبح فضاءً للاغتراب، اذ تُزعزع القوى الخارجية (الشمال) والأزمات النفسية (الانعكاسات المشوّهة) الواقع والذاكرة. يُجسّد هذا التوتر موضوع المنفى الأوسع باعتباره حالة جسدية ونفسية على حد سواء تصبح فيه علاقة المرء بالمكان-وبالتالي بهويته-علاقة مضطربة ومتناقضة.
العنف والصدمة
تُجسد القصيدة العنف والصدمات النفسية عبر نظام من الصور التحويلية، تتحول فيه المشاهد البريئة والأشياء العادية فجأة إلى مشاهد عنيفة، في محاكاة للطريقة التي تعطل بها الصدمة التجربة اليومية المعتادة. تتضح هذه الفكرة في هذا المقطع المروع: “كان الفجر، ينام في قاعة تسورها الزهور المحترقة ويصرخ في تناقض الأشجار، وعند كل خطوة، كنت أزرع قرطاً وأقتل طفلاً.” هنا، يتجاور الفعل الخلّاق “أزرع” مع الفعل المدمر “أقتل” ليخلق إيقاعًا مدمرًا يُشير إلى حتمية العنف وعدم القدرة على الفكاك منه. القرط، الذي يُعتبر زينةً وجمالًا في سياقه التقليدي، بيد انه يتحول هنا إلى جزء من طقس دموي يربط بين الجمال والموت بطريقة مُروعة.
توظف القصيدة العناصر الطبيعية كلغة رمزية مُعقدة تحمل طبقات متعددة من المعاني. الماء، والصحراء، والأجرام السماوية تُشكّل أنظمة مترابطة تعكس حالات نفسية واجتماعية. يظهر تصوير الماء بصور متعددة على امتداد القصيدة، اذ انه يرتبط بالحياة والدمار في آن واحد. يُصبح النهر استعارًة مركزية كما في المقطع: “عتمة بنفسجية معلقة على جدار، لطخها الصبي بضحكاته وأسماه نهرا.” هنا، تتحوّل العتمة إلى نهر في إشارة إلى كيفية إعادة تشكيل الذاكرة والخيال للواقع. يعود النهر مرة أخرى كموقع للتحول في قوله: “عند اتساع النهر، أنبش بذرة الأرض وأنفخ فيها رمادي. سيشتعل النهر.” إن صورة الاشتعال المتناقضة تُعبر عن اختلال النظام الطبيعي واندماج العناصر المتعارضة.
إن التفاعل بين هذه العناصر الطبيعية يُكوّن منظومة مُعقدة من المعاني داخل النص. وعندما تجتمع هذه العناصر، فإنها تُشير غالبًا إلى لحظات تحوّل أو أزمة، كما في قوله “حين استفاقت الشمس في الصحراء كرمح منتصر اقتربتُ من جنة عمياء.” وبهذا المعنى، لا تُستخدم العناصر الطبيعية كخلفية أو إطار للقصيدة فحسب، بل كقوى فاعلة في استكشاف الصدمة، والهوية، والذاكرة. إن تشويه العناصر الطبيعية يُحاكي تشوّه التجربة الشخصية والجمعية، الامر الذ يُنتج مشهدًا تتبدّل فيه الملامح المألوفة لتُصبح غريبة ومُهددة، لكنها تبقى على الرغم من ذلك على صلة وثيقة بالتجربة الإنسانية.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة