عبد كريم حسن مراد
إن للذاكرة صوراً عدة تخزنها تباعاً من سيرة حياة الإنسان بكل أبعادها بشقيها المفرح والمؤلم، هذه الذاكرة رسمها لنا الكاتب مهدي علي ازبين من خلال تسريد روايته المعنونة (اسطرهاب) التي اشتغلت على ما ترسخ من آلام في ذاكرة الفرد وما خلفته من جراح يراها الكاتب تتوالد وتورق، والمعروف أن الجراح تتقرح وتترك بقعاً في جسم الإنسان، ولكن أن تورق فهذه هي الإشكالية التي نقف عندها لأن التبرعم وظهور الأوراق يأتي على الأغصان والورود وليس على الجراح.
ينطلق الكاتب في تضاريس روايته ويطلق للراوي العنان لمخيلته في تدوين سيرة حياته من خلال لعبة المعايشة الحية تارة والاستحضارت الموجعة للشخوص الذين عاش معهم تارة أخرى، سيما وأنه هو الآخر كان يعيش لحظة الألم الوسواسي أحياناً والألم الجسدي والنفسي أحياناً أخرى.
كان مسار الخطاب حلمياً لدرجة الغيبوبة والعشق أخذ من المتن الروائي الشيء الكثير ليعيش الراوي لحظات اليقظة وجنون الحلم الوردي من خلال عشقه لامرأة لم يكتب له القدر أن يفوز بها لأسباب نفسية ومادية.
الكاتب رسم لنا حياة بكاملها لبطله في المدينة التي عاش فيها طفولته سنوات بكل تجلياتها، تنتابه حالة هذيان ونوبات انفصام مؤقت، متقاطعاً مع واقعه بسبب فقدانه للكثير من أحبته، لذا تراه يتحاور مع شخوص وهميين، يسكنون في تلافيف عقله وأدراج ذاكرته لراحلين عن الدنيا.
تضمنت الرواية جوانب من سيرة الكاتب، وكذلك لمحات من سيرة المكان التي سجلها بشكل فني موظفاً إياها في بنية العمل وهو يتبع انتقالاته التي كانت مبثوثة في المتون، فنجد الراوي يخبرنا بلغة بسيطة عن بدايات تشكل هذا التجمع السكاني في مدينة (الثورة)، وهو يدوّن ما التصق في الذاكرة الجمعية، ويعيد تشكيل جانب من مظاهر حياة الناس والحجارة حين يرافق أمه في رحلتها للعثور على سكن بين هؤلاء، فيكشف هذا العالم الذي يمور بالمتناقضات مصوراً الطرقات المتربة وافتراش العجائز الأرض في حلقات بلوحات لغوية، فيصف لنا طفلة تتوسد فخذ جدتها التي تفلّي شعرها المنفوش وترد على الأسئلة بكل أريحية، ويمر على البيوتات البائسة ومهرجان الكلاب السائبة وقطعان الماشية التي تبحث عما يسد رمقها، وعلى ألعاب الصغار المتوازنة مع بؤس الحال، ويسمعنا ضجيج الأصوات ويزكم أنوفنا بروائح الروث ومخلفات البشر والدخان في جو تسيّده الغبار.
لعب الكاتب بالزمن داخل الرواية، فهو يضعنا في زمنين سرديين، أولهما في السبعينيات القرن الماضي وما تلاه، والثاني مع بداية القرن الواحد والعشرين، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال ما رشح من لغة الخطاب، ومستويات اللغة التي احتضنت السرد، فنجد في الأولى لغة عفوية متداولة، تتواءم مع عمر السارد الذي يقترب من النضوج وهو في حالة استذكار لمجريات حياته الماضية ليتداخل مع المتحدث الذي كان يستمع لخطاب طبيب الأعشاب وما تضمنه من نبرة متعالية تنمي عنم روحية التنمر المضمرة، وهذا ما نلمسه في الأحداث المستجدة نلحظ لغة محلقة مغرقة بالصيغ البلاغية
لقد نجح الكاتب في لعبة التسريد ما بين شخصيات روايته وبلغة متمازجة ما بين الشعرية الجميلة واللغة العفوية التي من خلالها نجح في جعل حدث الرواية السيرية مشوقة يدفع القارئ بأن يتعشق في التوغل في دراما حدثه التي قسمها بزمن آني وآخر ماضٍ.
حضر الوجع في صور ناطقة من خلال الاسقاطات النفسية للبطل وهو يخاطب الآخر (الحاضر الغائب)، فالصور التي رسمها الكاتب هي صور صامتة وناطقة تتحرك أمام البطل وهو منشطر ما بين نشوة تلك الايام والحنين لذلك الماضي ووجع الغياب الذي خلفته العواصف التي حلت بالبلد فتراكمات تلك الصور جعلت الشخصية الساردة والعالمة بكل شيء تعيش تدفقاً حكائياً لرحلة سيرية من حياة البطل، ويقيناً هي لم تكتب افتراضياً؛ بل للكاتب نصيب منها، بل هي رحلته التي ترسخت في الذاكرة التي نظمت تلك الصور والأحاديث لتكتب في صفحات من مذكرات سردية وتحت عنوان (اسطرهاب) تنبع من جراح أفرزت جراحات كثيرة لم تزل تنزف.
الرواية هي حكايات من زمن ما زال شيء من نكهته عالقة في ذاكرة الكاتب (البطل)، فلقد نجح في لعبة التسريد من خلال ذاكرة شخوصه، مثل (جبر) والأب والابن والأم والآخرون الذي كانوا يشاركونه محنة الفعل لحياة البطل ونجح ايضاً في توثيق شيء من تاريخ البلد في مراحله السياسية والمقارنة بينهما، فالأبطال ذاكرتهم مليئة بصور توزعت سرودها ما بين البطل والأب (أبو حسين) الذي كان ثاقباً ببصيرته، وذلك لما يحمله من وقائع حياتية معاشة كان يسردها ما بين حين وآخر، بل هي رحلة حلم اليقظة التي عاشها البطل وهو يرقد في فراش المرض داخل مستشفى بانتظار إجراء عملية له، فكانت لحلميته رحلة ذاكرة عاشها بكل أبعادها ليعود إلى المربع الأول/ سرير المرض وهو بانتظار الورقة والقلم لكتابة رسالة أو سيرة حياته من خلال غيبوبته في أثناء إجراء عملية له، لقد استخدم الكاتب في تدوين روايته الأسلوب الدائري في سرد الحدث العمل، وقد نجح ببراعة وإتقان وهو يسطر متونه بلغة شفافة وذات وقع موسيقي الأجراس.
سيرة ذاكرة ملتهبة قراءة في رواية (اسطرهاب) لمهدي علي ازبين
![سيرة ذاكرة ملتهبة
قراءة في رواية (اسطرهاب) لمهدي علي ازبين](https://newsabah.com/wp-content/uploads/2025/02/2-4-722x1024.jpg)
التعليقات مغلقة