سمير لوبه
بوجه يحمل ملامح الزمن؛ تغطيه خيوط ناعمة نسجتها سنوات طويلة ، وعيون ما زالت تحتفظ ببريق خفيف، إلا أن نظرتها عميقة تحمل ذكريات ترفض أن تنقضي، في شعره خصلات بيضاء شاهدة على الأشواك التي زرعها التعب في قلبه، خطواته بطيئة، وكل خطوة تنقل له مشاعر مختلطة من الندم والرضا عن حياته، وكأنه يراجع كل لحظة وكل مكان مر به، ملابسه بسيطة، وابتسامته تحمل شيئًا من الود، كما لو أنه يعلن عن محارب قديم تعود على احتواء الألم، يتأمل الماضي الذي انقضي سريعًا، يحاول أن يسترجع لمحات من طفولته المليئة بالبراءة ، يشعر بحنين متزايد إلى أيام كانت فيها الحياة أسهل، يعلم في أعماقه الاقتراب من نهاية الرحلة ، تنتابه رغبة في العودة إلى مدينته القديمة؛ ربما وجد ذاته الضائعة في هذا العالم المتسارع، وبينما تأخذه شوارع المدينة إذا به أمام مقهى قديم ما زال يحمل عبق الماضي، يحتسي الذكريات من فنجان القهوة الذي بين يديه ، تحدثه نفسه بصوت مفعم بالحنين:
– في البدء كانت أبواب البيوت خشبية مفتوحة على براح الشارع، والشرفات تفتح ذراعيها تحتضن النسيم العليل، في البراح نلهو وتتعالى الضحكات مع براءة اللعب ، تنهمر السنوات من سحائب الزمن ، الأبواب باتت حديدية قاتمة مغلقة، والشرفات تكممها الستائر ، والشوارع ضاقت فغاب النسيم منها، غابت ملامح مدينتي تاهت ذكرياتها الجميلة ؛ كنت أطير مع النوارس على شواطئها، أستمتع برائحة البحر، فجأة تبدل وجه المدينة ؛ اختفت رائحة الشوارع القديمة، الكافيهات ومحلات الأطعمة في كل مكان، أشتاق إلى مدينة الفنون والإبداع لا سوق للأطعمة، في النهاية صرت مجذوبا يطوف هائما يبحث عن مدينته القديمة.
يتوقف صوته قليلاً، يسترجع تفاصيل تلك الأيام البعيدة التي طواها الزمن، يبدو وكأنه يتحدث عن شيء غالٍ عليه، شيء لم يجرؤ على الحديث عنه طويلاً، أكمل حديثه، هذه المرة بنبرة أعمق:
– كنت صغيرًا يشعر وكأن المدينة تتنفس معي، وتحتضنني بحنان.
توقف للحظة، ثم رفع نظره إلى الأفق كما لو كان يبحث عن شيء مفقود:
– روح المدينة تذبل أمام عيني
يغمض عينيه للحظات، كأنما يطوي الزمن ويعود إلى تلك الأيام التي لم ينسها أبدًا،
يسير في أحد الشوارع القديمة، الذي كان يوماً ينبض بالحيوية، فيجد المكان وقد غطته أنوار لامعة وأصوات مزعجة، مشهدٌ يعكس من دون شك تلاشي الأصالة، ينظر إلى الجدران التي كانت شاهدة على لحظات سابقة، فتخيل كيف كانت أقدامه الصغيرة تطرق الأرض بحثاً عن لعبة أو مغامرة جديدة، كيف كانت عيونه تراقب السماء الزرقاء، تنتظر لحظة الغروب على شاطئ البحر، وكأن الحياة لا تنتهي، لكن اليوم، كل شيء تبدل، الناس في الشوارع غابت ابتسامتهم ، حتى البحر ملاذ روحه ، صار غريباً فقد جماله، تسوقه قدماه إلى بيتهم القديم في بحري ، بوابة البيت مغطاة بالغبار وكأنها تخفي جزءاً من تاريخ المدينة المنسي، يقترب منها ، فيجد الباب مواربًا ؛ يدفعه ببطء يدخل ، فإذا بالزمان قد توقف هنا ، يعيش الماضي مع مدينته في ذلك الركن المهجور، في قلبه ما زالت تتنفس تغني له أغنيتها القديمة، على الكورنيش يسير تحت زخات المطر يرفرف قلبه مع النوارس فوق صفحة البحر.
الأبواب الخشبية

التعليقات مغلقة