د. سمير الخليل
شهد مهرجان الكميت في نسخته الثامنة (دورة الشاعر عيسى حسن الياسري) فعاليات معرفية ونقدية متميزة، فضلاً عن الجلسات الشعرية، وتحولت أجواؤه إلى فضاء منتج لمقاربات ورؤى ودراسات اتّسمت بالعمق والموضوعية والتنوع والمغايرة، وقد قسّمت إلى محورين: الأول تناول تجربة الشاعر المحتفى به والكشف عن إبداعه الشعري ورصانة منجزه، وقد أسهم فيها كل من: د. جاسم الخالدي، ود. رائدة العامري، ود. مسار الناصري، ود. جاسم محمد جسام، والناقد علوان السلمان، وأدار الجلسة الناقد علي الفواز، وعرضت اللجنة المنظمة للمهرجان بإدارة الأستاذ حامد عبد الحسين فيلماً وثائقياً وتسجيلياً عن الشاعر وحياته وسيرته الثقافية، اتّسمت القراءات النقديّة بالرصانة في استجلاء ودراسة جوانب من منجز الشاعر وظواهر الإبداع الفني والفكري لديه، والتعمّق في أبعاد تجربته على مستوى التجديد في الأنماط الشعرية التي أجاد فيها، والتركيز على خطابه الشعري الذي امتاز به، مع دراسة الظروف والمؤثرات التي أحاطت بتجربته التي شكّلت علامة فارقة وخصوصية تميّز بها شعره الذي عبر فيه عن هموم ورؤى في مختلف التوجهات الإنسانية والوطنية وعلى رأسها الطبيعة والمرأة والأبعاد والرؤى المختلفة التي صاغها في شعره عبر تجربة عميقة، وقد كشفت الدراسات النقدية عن ملامح تجربته الشعرية الذاتية وعوامل تشكّلها وخصائص تميّزها ، مقارنة بتجارب جيله مع التركيز على تطور القصيدة لديه، والتطور لما بعد تجربة الرواد والتأسيسات المبكّرة للأجيال التي تلت مسارهم، ومخاضاتهم الفنيّة والفكريّة.
فيما ركّزت دراسات ومقاربات أخرى حول الجوانب والظواهر الفنية في شعره، إذ اتّسمت بالجدّة والمغايرة والعمق وتوظيف تقنيات القصيدة الحديثة في استثمار الصورة الشعرية والبحث عن المعنى والاختزال وتجسيد رؤى ومنظورات عبّرت عن هموم المرحلة، وهموم الإنسان في ظلّ الظروف والإفرازات التي تمثّل تحدياً للشعر والإبداع وتجسّد التعالق بين الهموم الذاتية والهم العام، واقتراح وترسيخ التقاليد التعبيرية والأسلوبية في بنية القصيدة الحديثة واشتغالاتها على المستوى الإيقاعي والتركيبي والدلالي، ممّا رسّخ تياراً شعرياً أثبت جدواه وقدرته على اكتساب الهويّة والتميّز واستثمار الموروث الشعري وعوالمه المتباينة سواء ما يتعلق بالنمط الكلاسيكي، أم النمط الحر (التفعيلي) وأشكال وتعدّد أنماط الشعر الحديث بين الشعر العمودي وقصيدة النثر وقصيدة التفعيلة، وكانت الدراسات النقدية عن الشاعر عيسى الياسري ذات نكهة متنوعة وجادّة اتضحت معالم التجديد المقترن بالتجريب في القصيدة السبعينية على وجه التحديد التي شكّلت نوعاً من القطيعة المنتجة واستلهام الرؤى الجديدة، وتجاوز التقليدي والسائد وانتاج رؤى وانفتاحات عمّقت من جمالية الخطاب الشعري وتخلّصه من ظواهر التكرار وانعدام التفرّد بسبب الانشداد إلى صيغ الإستهلاك والتقليدية والدوران في ثيمات مكرّرة بعيداً عن استراتيجيات التجريب الجديدة التي تمخّض عنها النمط التعبيري الذي يكشف عن نصوص رؤيوية غير مترهّلة، وومضات اتسمت بالجمال على مستوى اللّغة الشعريّة والتحليق في عوالم الرمز والأسطرة والشعر الملتزم، وقد ركز نقاد مهرجان الكميت على الأسباب والمؤثرات التي أسهمت في نضج تجربة الشاعر (عيسى حسن الياسري) وتأثره بالتجارب التي سبقت واستقصاء العوامل الأخرى المرتبطة بتجربة الشعر الحديث على مستوى القصيدة العربية التي شهدت تجارب وتحوّلات نوعيّة في مصر ولبنان وسورية وأقطار المغرب العربي فضلاً عن المؤثّر الخارجي المرتبط بتطوّر القصيدة العربية وقد أسهمت الترجمة في نقل تجارب ورؤى واشتغالات شعراء أسّسوا لهذا التوجّه الإنساني والشعري مثل لوركا ورينسوس ورامبو وأديث سيتويل وقسطنين كافافي وغيرهم العشرات، وقد أسهم الانفتاح على قيم وتأسيسات ومنطلقات الحداثة الشعرية التي شكّلت بتوجّهاتها قطيعة ابستمولوجية مع مجمل الموروث التقليدي، والسائد وأشكال التنميط المستهلك.
وعلى وفق هذه المعطيات كان لمهرجان الكميت بنسخته الثامنة دور الكشف والتركيز على الظواهر الثقافية والاشتباك مع الرؤى الحداثية الجديدة، والتصدّي لكثير من الإشكاليات التي تثير الأسئلة، وتسهم في إيجاد المقاربات المنتجة على مستوى السؤال المعرفي والثقافي واستنطاق جوانب الإبداع والجدّة والمغايرة وتأسيس توجّه فكري جاد ورصين في دراسة الواقع الثقافي والكشف عن استراتيجيات الخطاب الإنساني، ودور الإبداع في تحريك كلّ الأبعاد والأنساق من أجل تشكيلات رصينة وجادّة تواكب المسار الإنساني للثقافة والكشوفات المرتكزة على قيم الإنسان، والحداثة والمغايرة، والبحث عن الخصوصية والهويّة والمنجز القائم على الاشتراطات والتأسيسات الجادّة والمعبّرة عن روح العصر، مع الاهتمام بكلّ الجوانب والظواهر التي تكشف عن عمق وأصالة الثقافة العراقية ودور المثقف العراقي في رفد التجربة الإبداعية والإنسانية، وهذه التوجّهات اتسمت بها دورات مهرجان الكميت وعلى مدى سني تجربته الجادّة والمتميزة حتى تحول إلى فضاء ثقافي ومشغل نقدي وتوجّهات تتسم بالتميّز والتفرد وتأسيس استراتيجية للمغايرة والتجديد وإثارة السؤال المعرفي؛ ولا ننسى أنَّ القراءات الشعرية تأتي في أعقاب الجلسات النقدية وهي قراءات تنم عن تطور جيل آخر متفرّد في الإبداع وبأسماء شابّه ومحترفة كلّها تميّزت بالإبداع .
أمّا القسم الثاني الذي جسّد هذه التوجهات والمعطيات واتسم بالتنوع وتناول الاستراتيجيات النقدية والفلسفية الحداثية ما انطوى عليه محور (الدراسات الثقافية) التي أسهم في مقارباتها كل من النقاد : (د. سمير الخليل، ود. محمد غازي الأخرس، ود. علي متعب، ود. أحمد الظفيري، وحسن السلمان) بإدارة الناقد (علي سعدون)، وقد أسهمت هذه المقاربات في التركيز على الكشوفات والاشتغالات التي اتسمت بها الدراسات الثقافية بوصفها استراتيجية تمثّل فكر الحداثة وما بعد الحداثة، والدراسات الثقافية هي المرجعية الشرعية للنقد الثقافي وزبدة مخاضها، في حين أسهم المحور الثالث بتناول الظاهرة السردية في العراق وتعدّد أشكالها وتجلياتها وتجاربها التي تميّزت بتوظيف التقنيات السرديّة، وتنوّع المضامين الإنسانية، وقد أسهم فيها د. حمزة عليوي، ود. هادي البطحاوي، ود. أمجد نجم الزيدي، وعباس خلف، وحسين الكعبي، وعلاء الموسوي، وكان محوراً لافتاً في دراساته واهتماماته.
ولا يسع المتابع أو المشارك في هذا الكرنفال المعرفي والثقافي إلاّ أن يتوجه بالشكر والعرفان إلى إدارة المهرجان وإلى المبدعين الذين صنعوا هذا الاحتفاء الجمالي والفكري، وتقتضي الأمانة بتوجيه التحيّة إلى صنّاع هذا الإبداع وانتقاء المحاور وتوفير المستلزمات والأجواء والشكر لهم على حسن الضيافة، وكرم العطاء، شكراً وامتناناً لرئيس الاتحاد الأستاذ حامد عبد الحسين حميدي ونائبه علي كاظم داود، واللجنة الإدارية: الشاعر رعد زامل والشاعر ماجد الحسن، والناقد علي سعدون والشاعر مهند عبد الجبار علي، على كلّ هذا الإبداع وجمالية الانتقاء وحسن التنظيم، وكلنا نتطلع إلى ديمومة هذا المنجز المتميّز والمغاير وهو يتصاعد ويتنوع ويزهو عاماً بعد عام خدمة وتعميقاً للمشهد الثقافي والعربي معاً.. دامت جهودكم الإبداعية.
مهرجان الكميت فضاء معرفي وثقافي وحاضنة منتجة للإبداع
التعليقات مغلقة