فاهم وارد العفريت
التقدم العلمي والتكنولوجي الحديث الذي شهده العالم في كافة مجالات الحياة، جعل من إستثمار الوقت سمته الأساسية في سرعة إنجاز الأعمال ودوران عجلة الحياة بكافة أشكالها وصورها .وبما أنّ الآداب والثقافات جزء مهم وأساسي في إضاءة الجوانب المعتمة لمجمل الفعاليات الحياتية المختلفة، فإنّ تلك التقنيات والتطوّرات الحديثة لابدّ وأن تشملها في ذلك التغيير .
فظهرت وفقاً لهذا أشكالٌ جديدة في الأدب إرتدت ثوب الحداثة، ومنها القصة القصيرة جدا، والتي جاءت مواكبة لعصر السرعة الذي أصبح سمة الحياة العصرية الحديثة لدى الشعوب والمجتمعات .
(روشيرو) مجموعة قصص قصيرة جدا للقاص حسين رشيد من إصدارات دار شهريار في البصرة للعام 2017 وهي تضم أربعة أقسام (تعال لأريك، تمعن بتلك، تحدث معك/ ثلاثيات، تخيل ذلك / مشاهد قصصية) كل قسم يحتوي على مجموعة من القصص بنسق معين شكلت بمجملها قصص المجموعة.
قبل الخوص بعيداً بين أبجديات أحداث وثيمة تلك القصص التي صاغها القاص ببوح كاشف من رحم الأحداث المتوالية التي مرّ بها وعاش لحظاتها بكل ماتحمل من تفاصيل، ذلك البوح الذي أعطانا فرصة للتطواف بين عوالم تلك القصص وما تحمله أو تمثله من إنطباعات محملة بالمعاني التي زرعها القاص في بستان إشتغالاته وهو يحمل نصوصه هذه سجلاً حافلاً بالمخاضات والمكابدات والتجارب الحياتية والفكرية العديدة .
في محاولة تفكيك تلك النصوص التي جاءت متناغمة تماماً مع اللحن الحزين للشارع العراقي بكافة أطيافه ومستويات ناسه فهي تجربة أو تجارب مرّ بها حسين رشيد طيلة سني عمره المنصرمة ليترجمها الى هذا الكم الموثق الجميل من القصص القصيرة جدا ليكشف من خلالها الكثير من دقائق الحياة وخاصة المسكوت عنه في تناول مسألة الجنس والعلاقات المتبادلة بين الجنسين، وعلاقة الانسان بالاديان، والميثالوجيا، والموراث الشعبي، والمنظور الفلسفلي الذي يبدو ان القاص يعمل على الزج به في قصص معينة يجيد اختياراتها.
ثمة موسيقى متدفقة من بين حروف هذه النصوص القصيرة جدا، أظهرت أن القاص حسين رشيد قد مثل الذوبان اللا متناهي في عالم البناء السردي لمدلول الحياة وبكل تشعباتها، التي وظف فيه القاص وعبر عدد غير قليل من قصص تلك المجموعة عن دلالات تعبيرية عملت على إنتاج مزاوجة تأريخية وسياسية وإجتماعية، وفق تحولات معاصرة في السرد الذي إحتضن ذائقة القاريء بتلك الطاقات المحتشدة التي حملها حسين رشيد بين نبضه واقعاً ملموساً ، وهي تمثل كاميرا للكلمات وللأحاسيس الصادقة التي إستطاع من خلالها تصوير أحداث قد تنساها الناس في يوم ما مع زحمة الحياة وما يرافقها من شقاء للذاكرة، التي ربما تفقد في الكثير من الأحيان صفة الإستمرار بالإحتفاظ بسيرورة تلك الأحداث ، أو إستنطاق زمكانية حدوثها وماهيته .
والتي ما إنفكت وهي تتوالى عبئاً على الأغلبية الصامتة ممن يرزحون تحت سطوة مجريات مغلفة بخلجات النفوس وما أنتجتها لها التجليات من آلام مختلفة .
وهنا تظهر لنا بصيرة القاص الذي ذاب بتطرفٍ روحي في إبراز هذه المشاعر التي عاش بشكلٍ فعلي أغلب أحداثها ومجمل تفاصيلها، ليقدم لنا عبر نصوص (روشيرو) واقعاً أستخدم فيه الإستعارة والتشبيه والرمز، وهو يحمل بين تفاصيل أبجدياته أحداثاً إرتكزت على الواقع وما يدور في دائرته من الإقتراب أو الإبتعاد عن إنفعالات التجليات الزمانية والمكانية، والتي سجل من خلالها تجاربه حتى لاتغيب أبداً عن ذاكرة الوطن أولاً ثم ناسه الذين ذاقوا بؤس الواقع العراقي الحديث، الذي جثم فوق صدور الأغلبية ليسحقهم بالمسميات الطائفية والقومية والأثنية التي إجتاحت الواقع العراقي من أقصاه الى أقصاه بعد إحتلال عام 2003 ، لتنتج للوطن المبتلى خراباً دائماً عم الجميع .
هذه الوثائقية التي أتسم بها القاص وهو يرسم أو يرصد أحداث بلده، جعلته قريباً جداً من نبض الناس والشارع الذي إمتزج فيه ماقبل 2003 وبما حملته سنينه من طيش المراهقة أو بداية الأنتماء لأبجدية الحياة في أول صورها وما تلاها من سنوات إختلطت فيها سموم الواقع مع حلاوة الشباب وما فيه من إقدام وجرأة وما بعده من قيود فرضها الإحتلال وحكوماته المتعاقبة التي سلطها فوق رقاب العراقيين.
فكلما سرنا نحو عالم (روشيرو) فإنّ خيال حسين رشيد القصصي وعوالمه المتخيلة يكون هو الحامل لكافة الأبعاد السايكولوجية لهذا الواقع المفروض بأحداثه ونتائجه وويلاته وحتى دقائق لحظاته .هذه المفازات التي أراد القاص من خلال قصصه إجتيازها ليكون شاهداً صادقاً وهو يسطر كل شاردة أو واردة تظهر فوق سطح هذا الصفيح الساخن دوماً بمجمل الأحداث وبجميع المسميات .
والذي يميز هذه القصص ويجعلها قريبة من القارىء خلوها من التعقيد اللغوي الذي يجعلها في يوتيبيا بعيدة عن إهتمام المتلقي ، ولكن إسلوب القص الممتع واللغة السلسة والتوظيف الناجح لإخراج المعنى القصصي والذي جاء دون تكلّف أعطى لتلك القصص وهجاً معنوياً مثل أبجدية محببة لهذا العطاء الثر من الصور والمعاني .والتي قدمت للقاريء مادار من أحداث وما فعله البعض من الأشخاص الذين كانوا يحملون معهم الوجه الآخر الذي ربما غاب عن معرفته الكثيرين .كما أن القاص إستطاع وعبر تلك القصص أن يتجاوز المألوف في عمله على التمازج بين الحداثة وبين الواقعية .
فهو السارد العارف بخبايا الأمور حيث إستطاع الإرتكاز على الواقع وعلى الذاكرة والنسج بينهما والسير وحمل هموم الوطن ومعاناة ناسه وتلك من بين السمات المهمة في روشيرو اذ لم تترك شيئا الا تناولتها بقصة او اشارة.
وبهذه الإنثيالات وإستعارات المعاني والصور الدلالية تمكن القاص بحدسه وخبرته التي أنتجتها السنين أن يكشف زيف هؤلاء الأدعياء وبكافة مستوياتهم ومسمياتهم سياسية كانت أو إجتماعية او دينية أو مايتفرع منها من عناوين أخرى .
ولو قمنا بتجوالٍ بين عتبات وعناوين ومحتوى تلك القصص لرأينا أن القاص أنتج لنا نصوصاً فاضحة لكل ماهو سيء من المسميات ، وهي تدور في فضاء مفتوح مثلت الفولكلور ببساطة اللغة وإقترابها من المتلقي، كذلك مثلت بعداً سايكولوجياً في تداخل الطقوس الحياتية المتنوعة مع المتخيل الحي والخيال المحكي بين القاص وذاته.
وهذا التناسق للجمل بكل ماتحمل من إيحاء ولغة قصصية تبلورت فيها الطاقات المحتشدة لإحتضان أكبر عدد ممكن من القراء في توليف الصور ذات الدلالة التعبيرية , التي عملت على إنتاج مشاعر متبادلة بين القاص والمتلقي , لتحفز فيه التأمل فيما تفضي إليه مشاغل المعاني في تلك القصص .
فهي حملت جزء من سنوات الحرب الأولى ذات الثمان سنوات وما أنتجته من تداعيات إجتماعية صادمة، وكذلك حملت إسترجاع للذاكرة فيما آلت اليه سنوات الحصار من ضعضعة للتقاليد والأعراف التي كانت سائدة قبل سماع أصوات رصاص المواجهات التي إكتسحت عمر الوطن وشبابه، ثم إرتبطت بالراهن المعاش وما شهده من إرهاب وموت مجاني وبين هذا وذاك مثلت تجربة القاص الشخصية في الكثير من تلك الاشتغالات وبوجه الخصوص العلاقات مع النساء فالكثير من قصص المجموعة تدل على انها تجربة خاصة خاضها الكاتب، لذا تجده بتفاصيل صغيرة مدهشة لايكتبها الا من خاضها وعاشها.
هذه القصص وما حملته من توظيف هيمن عليه تعدد الأحداث وتنوّع الشخصيات ، منحت النصوص صفة الجمال والإبداع والمغايرة عما مكتوب ومالوف في السرد وخاصة في القصة القصيرة جدا، فكانت محصلتها إختياراً موفقاً وصائباً في إستلهام الواقع ومزجه بهندسة سردية مع الخيال. وبهذا العدد من المؤثرات والمقاربات إن كانت تأويلاً أو إيحاءً ضمت مشاغل المعاني التي حملتها ، حتى تكون وسيلة ناجعة للتطواف الذي ينقل الإنسان العراقي بكل إنطباعاته وملامحه زمانياً ومكانياً وما إختزلته من أوجاع ، الى واقع قد يكون بعيداً عن سيوف الشقاء التي تحز لحظات العراقيين كل حين دون أن يكون هناك شعاع أمل بعيد .