هيثم الزبيدي
لا بد أن يصيب التقشف في دول العالم مناحي كثيرة من الحياة. يقل المال لأسباب مختلفة شخصية وعالمية، فيبدأ الناس بالإنفاق بشكل أكثر حذرا و”يمطون دولاراتهم” كما يحب الأميركيون أن يقولوا. أول شيء يتوقف التبذير. ما ليس له ضرورة فلا ضرورة لاقتنائه. ثم يتحول الشراء إلى عمليات قنص وتدقيق للأسعار المتوفرة ومفاضلة بين الأنواع، هذا أغلى وهذا أفضل بالنسبة إلى سعره. تعمّر السيارة أكثر، وتصير تنتبه إلى إطفاء الضوء في الغرفة وأنت تغادرها. يعاد إحياء دور المطبخ في البيت ويقل الذهاب إلى المطاعم. تقل مرات الذهاب إلى السينما، ويتوقف ارتياد المسارح، وتصير المتاحف بالدخول المجاني هي مقصدك. يتأجل شراء الكتب.
إذا كان التقشف خطوات عملية يتخذها الفرد ليواجه بها أزمته، فإنه قد يكون مؤشر لكارثة على مستوى الدول. الثقافة من أوائل ضحايا التقشف على مستوى الحكومات.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون له رأي آخر. فرنسا تواجه الكثير من المشاكل الاقتصادية منذ بداية الأزمة العالمية عام 2008. زادتها جائحة كورونا همّا، وانكمش الاقتصاد كما لم يحدث من قبل. لكن ماكرون – وتبعه الرئيس الألماني فرانك – فالتر شتاينماير – يرى أن مسيرة التعافي لا يمكن أن تنطلق إلا بحصة من عودة الحياة إلى الثقافة. مبادرته بمنحة مالية ثقافية للشباب جديرة بالاعتبار. أنت شاب إذًا أنت تستحق 300 يورو تنفقها كما تحب على مناح ثقافية. سينما، مسرح، متحف، شراء كتب، مشاركة في مهرجان أو حضور حفلة موسيقية. المهم أن تتذكر أن لا تشبع بطنك فقط في هذه الأيام العصيبة، بل أشبع عقلك – أو روحك إذا جاز التعبير – بشيء ثقافي. هكذا فقط نعود إلى إيقاع حياتي سويّ بعيد عن الغرائزية في البحث عن الطعام وفي حب البقاء والنجاة من المرض والوباء. هذا ما جعلنا نخرج من البدائية نحو التقدم. هذا ما حوّل العصور المظلمة في التاريخ إلى مراحل التنوير ثم النهضة. وباستعارة ما قاله الرئيس الألماني فإنه لا يمكن للمجتمع أن يبقى على قيد الحياة دون هذا اللقاء مع الفن ودون التبادل والتعايش والجدل. “فأي مجتمع سيتوقف وجوده دون هذا الفضاء العام”.
عصور التنوير والنهضة ارتبطت بالفن وصعوده. ينفق الأثرياء وأصحاب الجاه والسلطة على الفنانين، فتنتشر الفنون ويبدأ الجميع في تذوّق الثقافة. الكنيسة القاسية التي أمعنت بالتخويف وأسست “محاكم التفتيش”، هذّبت نفسها بنفسها عندما حوّلت جزءا معتبرا من أموالها إلى عمارة الكنائس الجميلة ورعاية رسم لوحات ونحت تماثيل معاناة المسيح وصلبه. تسابق المعماريون والبناؤون لإقامة الصروح وحل المشاكل الرياضية والهندسية المعقدة المرتبطة بالتشييد، فخرج الناس بالمحصّلة من تلك الأبنية البائسة التي ميزت عصور الظلام في أوروبا. تنافس عباقرة الفن في عصرهم في تقديم الأكثر إبداعا. من دون رعاية مالية من ثريّ أو أمير أو راعي كنيسة، هل كنا سنرى لوحة/سقف “خلق أدم” لمايكل أنجلو؟ هل كانت عبقرية دافينشي الهندسية أن تبلغ ما بلغته بالتوازي مع عبقريته الفنية في جدارية “العشاء الأخير”؟ البلاط ينفق فيكتب نيكولو مكيافيلي نصائحه للجالس على العرش في كتاب “الأمير”. البابوية تهتم بالشعراء فنقرأ “الكوميديا الإلهية” لدانتي.
خطوات إلى الخلف في التاريخ لنقف عند الصروح الثقافية العربية الإسلامية في دمشق وبغداد والقاهرة وتونس وفاس والأندلس. يحلو للإسلاميين أن يفخروا بالفتوحات العسكرية. لكن ما يفخر به العربي المسلم المنفتح حقا هي تلك الصروح المعمارية التي شيدت على يد المهندس المسلم وتلك النصوص الأدبية التي كتبت لمؤانسة الخلفاء والأمراء. شعراؤنا الأهم ما كانوا يخجلون من كتابة القصائد في مديح الأمراء الكرماء ولا كانوا يترددون في هجاء الملوك البخلاء. هل نستطيع مجادلة المتنبي مثلا في ما كان يقوله؟
متى يبدأ الهدم الحضاري؟ يوم تهمل الثقافة وتعامل على أنها ترف. هذا ما يخبرنا به التاريخ، سواء في أوروبا أو الشرق. الغرائزية القائمة على إشباع البطن والخوف من الموت تحيل الأبنية مهما كانت ضخمة ومعقدة البناء، بل والمترفة، إلى ما يشبه الكهوف للإنسان البدائي. أنت تعيش لتأكل وتتحاشى الفناء. القيمة الإضافية للحياة تتراجع وتختفي، لتأخذ معها قسطا كبيرا مما تراكم لدى البشرية من العمران الإنساني وما نسميه اليوم حضارة.
الإنفاق على الثقافة ليس ترفا. ووضعها على قائمة التقشف هو إجحاف في إدراك القيمة المعنوية لدورها في هذه الحياة. الحكومات هي الوريثة المعاصرة لطبقة النبلاء والأثرياء والأمراء والبلاط والكنيسة والمقصد البابوي. لا يمكنها أن تهمل الثقافة بحجة التقشف.
الأزمات الاقتصادية ليست من صنع المثقفين مهما أنفقوا وأسرفوا. إنها أخطاء السياسيين ومحرقة أسلحة وتموين العسكريين ونتيجة لصراعات البلدان وتناطحها الغرائزي على المكانة. الثقافة بريئة من جريرتها. بل الثقافة منقذ منها حتى وإن بدت وكأنها تمد يدها متسولة.
*عن مجلة الجديد