اشارة شرطي المرور اجبرت صاحبي على التوقف بسيارته عند الاشارة الضوئية في احدى تقاطعات شوارع العاصمة بغداد ، فاذا بعدد من الاطفال المتسولين ذكورا واناثا يتدافعون نحوه وهم مادي الايدي في محاولة يائسة لفتح زجاجة النافذة الجانبية طلبا لاي مبلغ يجود به صاحب المركبة او من كان بصحبته .
مجرد التفكير في هذه الحالة التي تشكل انموذجا لمئات الآلاف من النسوة والأطفال ووكبار السن المنخرطين في شبكات التسول، التي تجتاح شتى مدن العراق وزادت أعدادها طوال السنوات الماضية، تصاعدا مع زيادة نسب الفقر واندلاع الصراعات الداخلية والجفاف الذي أجتاح الاراضي الزراعية والبساتين في أرياف البلاد، مما دفع أعدادا هائلة من اهالي هذه المناطق غير المتمكنين من تأمين نفقات حياتهم، للخضوع والعمل في تلك الشبكات، إلى جانب أعداد كبيرة أخرى من المهجرين .
في محاولة يائسة للحصول على أرقام محددة لأعداد المتسولين في شتى مدن العراق، سواء من وزارة العمل والشؤون الاجتماعية أو وزارتي التخطيط والتجارة ، لكن لا وجود لإحصاءات مبوبة، خلا بعض المؤشرات التي أنتجتها دراسات غير حكومية.
إذ تقول منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) إن 7.3 بالمئة من الأطفال العراقيين الذين تقل أعمارهم عن 18 عاما منخرطون في أشكال عمالة الأطفال، وأن 16 بالمئة من هؤلاء الأطفال يعيشون في ظروف صعبة، ووفقا لحسابات تفصيلية فأن أعداد المتسولين العراقيين من الأطفال فحسب تقارب نحو 200 ألف طفل، يضاف إليهم ما يقاربهم عددا من كبار السن عموما والمسنات بشكل خاص.
كرد فعل على هذه الظاهرة، وبعد سنوات من المداولات التفصيلية، فإن الحكومة أقرت مسودة قانون عام لـ”حماية الطفل”، بالتعاون مع مفوضية حقوق الإنسان ومنظمة اليونيسف، وحولته إلى مجلس النواب لمناقشته وتشريعه قبل تطبيقه، حيث تعهدت الحكومة بأن يكون القانون بمثابة الحل النهائي لهذه الظاهرة.
لكن هناك صعوبات تحول دون إمكانية تطبيق ذلك القانون بسبب أن التسول في العراق ليس مجرد مشكلة اجتماعية أو ظرفية بل هو الانعكاس الشرطي والإجباري لمجموع الأحوال السياسية والاقتصادية والتربوية ، وهي أحوال تعد في أدنى مستوياتها في العراق”.
فـ”المتسولون يعتبرون فعليا بمثابة معيلين لعائلاتهم، وبذا مستعدون لفعل كل شيء للاستمرار في ذلك، حتى لو أمنت لهم الحكومة أفضل أنواع التعليم والحماية الجسدية، فطالما أسرهم غير محمية فإن الحكومة لن تتمكن من ضبط هذه الظاهرة التي تفشت بشكل مريع .
وزارة العمل والشؤون الاجتماعية كانت قد تعهدت في وقت سابق بإجراء مسوحات ميدانية لكل بؤر التسول في البلاد، وأكدت أنها على تواصل مع مجلس القضاء الأعلى لضبط ومعاقبة منتهكي حقوق الأطفال، بما في ذلك رعاة وزعماء شبكات التسول تلك.
لكن خبراء شككوا في إمكانية تحقيق ذلك المسعى، فالأعداد الكلية للمتسولين يفوق حتى طاقة السجون في العراق. ، ففي الأرياف والمدن الصغيرة تكون سلة الحاجات اليومية بالغة البساطة، لكن مع النزوح الاستثنائي للعائلات إلى المناطق الحضرية خلال السنوات الـ15 الأخيرة بعدد يقترب من 10 ملايين شخص، فإن العشوائيات تفرز طبقة من المهمشين غير القادرين على تحصيل شروط حياتهم بالحد الأدنى”.
بالتالي يكون هؤلاء طيعين للدخول في أعمال التسول، التي لا تحتاج لأي تحصيل علمي أو مهارة جسدية، بدليل أن أعداد المتسولين هي الأعلى في مدن بغداد والبصرة والموصل”.
وكان للعراق قانون واحد للحد من هذه الظاهرة، أصدرته الحكومات السابقة في أوائل عهدها بأواخر ستينيات القرن المنصرم ، ومرقما بالرقم “111”. ، لكن معضلة القانون أنه كان يرى في مسألة التسول مجرد جريمة ، لذا كان يضم مجموعة من البنود العقابية فحسب تصل إلى السجن لمدة سنة، من دون أن يضع على عاتق الحكومات أي مهام وواجبات للسيطرة على الظروف التأسيسية لهذه الظاهرة، وحماية الأطفال وعائلاتهم اجتماعيا.
وكانت وزارة التخطيط قد حددت قبل عامين نسبة الفقر في عموم العراق بنحو 20 بالمئة من السكان، متوافقة مع أرقام ورقة السياسات التي أصدرها البنك الدولي حول البلاد مؤخرا ، مما يعني أنه ثمة قرابة 9 ملايين عراقي يعيشون تحت خط الفقر. ، يضاف هؤلاء إلى قرابة مليوني عراقي نزحوا من مناطقهم الأصلية خلال السنوات بين 2014 و2018، لم يعد منهم إلا أعداد يسيرة، وهم كانوا بالأساس أبناء أكثر مناطق العراق فقرا، الريف الأوسط والغربي من البلاد.
سامي حسن