كان لانهيار النظام السابق، وتفتيت سلطة الاستبداد والقمع والكبت في كل ميادين الحياة، دور في إيقاد شعلة الأمل في سماء الثقافة العراقية المبلدة بغيوم التبعية للسلطة والتشتت في البلدان والصمت المدوي والتغييب بين دهاليز السجون والمعتقلات. تلك الشعلة التي تنير الطريق للمثقف، ليتبوأ مكانه الحقيقي، وهو صدارة المشهد الاجتماعي، بوصفه الممثل الأبرز للوعي. ولعل الوصول إلى ذلك المكان، يعتمد بشكل أساس على المثقف نفسه، فوحده الذي يمكنه الاقتراب من الجماهير وملامسة شعورهم والاقتراب من مناطقهم المبللة بالأسى والغربة والحنين إلى دفء وسط شتاء مزمن.. وما يمكن المثقف من بلوغ ذلك الدور هو انتماءه إلى وطنه، وارتداء معطف الوطنية والوطن، والتمسك بهوية واحدة، وترك الباقي خلفه، وهي هويته الوطنية الجامعة التي تسمو على كل الانتماءات الثانوية. والأمل المرجو، كان قويا، بسبب التحرر من هيمنة النظام الذي جثم على صدر المثقف ماديا ومعنويا، ولم يترك له أي خيار، سوى ارتداء ثوب السلطة، عبر جعله تابعا لها، أو أن يختار أما المقابر أو المنافي أو الصمت.. فحين انتهت مبررات الهرولة خلف السلطة، فإن ما يستحق السير خلفه هو الوطن، وذلك عبر السعي إلى تشييد هوية وطنية، تكون خيمة يستظل بها المثقف ويدعو بعد ذلك الناس إلى الدخول إليها. لكن ما حدث وللأسف، أن بعض المثقفين، استبدلوا السلطة بالطائفة، فكان كل ما يرمز إلى طائفتهم، يكون محل مدح، وكل ما يعتقدونه ضد الطائفة، سيكون محل قدح.. وكان للفضاء الافتراضي الحصة الأكبر في ممارسة كل أشكال البث الطائفي، دون رقيب أو حسيب، خصوصا إذا كان ذلك المثقف يسكن خارج البلد، أما الذي يسكن في الداخل، فربما ينشر طائفيته لإيمانه بأنه محمي ومدعوم من قبل جهات معينة، تمارس نفس الخطاب.
إذا كان المثقف بالأمس، يمارس خضوعه للسلطة، مجبرا، فإن المثقف اليوم، وأقصد البعض منهم، يمارس خضوعه للأحزاب تطوعا منه، أو لأنه قبض ثمن طائفيته. فهل سنشهد يوما، محاسبة المثقف الذي يروج للطائفية؟ خصوصا وأن القانون جرّم تلك الأفعال، بل اعتبرها جرائم ذات طابع إرهابي! والأسف الآخر هو وجود جمهور عريض يشجع ويدعم ذلك المثقف الذي يعتبرونه ربما ملاذا لطائفيتهم وخيمة لأفكارهم التي كلما تقدمت شمس الوطن والوطنية لأكلها، كلما تقدم فيئ ذلك المثقف لحمايتها. بالمقابل، لابد من وجود مثقف مضاد، بمعنى مثقف يروج للوطن، يروج للمفهوم الجامع والأكبر والأسمى من الانتماءات الفرعية، فهل يوجد مثل هكذا مثقف؟ وهل سينال مثقف الوطن دعما مثلما يناله مثقف الطائفة؟ صحيح أن بروز الطائفة، يكون في حالة تقهقر الوطن ومفهوم الوطن، لكن المثقف الحقيقي، قادر على دفع الوطن إلى الأمام، وإزاحة الطائفة..
سلام مكي