في “الشهداء الخونة”
علوان السلمان
النص السردي، نتاج ادبي .. فني جمالي.. يقوم على المشهدية المكتنزة فكريا ووجدانيا.. القائمة على ضوابط كاشفة عن لحظة شعورية خالقة لحقلها الدلالي بتوخي الايجاز وعمق المعنى، عبر وحدة موضوعية مؤطرة لنسق جمالي محقق المتعة الروحية والمنفعة الفكرية….من خلال ما تطرحه من اسئلة تنحصر في الـ (ماذا) و الـ (كيف)..من خلال الخوض في اتجاهين: اولهما المعنى (المضمون).. وثانيهما المبنى(الشكل).
وبالاشتباك التحليلي والتفكيكي مع عوالم النص المشهدية(الشهداء الخونة)الذي نسجتها انامل الروائي حسن كريم عاتي واسهمت المؤسسة العربية للدراسات والنشر في نشره وانتشاره/2018..كونه نص يتشكل بوعي سردي متنام على صعيد الاسلوب والبنية السردية التي تتخذ من الحكائية والدرامية الزاخرة بحمولات دلالية تشكيلا لنسقها السردي.. بلغة ايحائية وتراكيب جاذبة تضفي على الجسد النصي جمالية مستفزة للذات الجمعي الآخر(المستهلك) ونابشة لخزينه الفكري لاستنطاق ما خلف مشاهده والفاظه الرامزة، ابتداء من العنوان الذي يحمل نبرة تهكمية ساخرة، مكتظة بالدلالات والمعاني والمقاصد بفونيميه المنسوجين نسجا فنيا خالقا لرؤى جدلية بإيقاع حسي، فضلا عن الاهداء النص الموازي، المتجاوز للعنونة والمكتفي بـ (الى م..)الكاشف عن المتن السردي وقد اتكأ عليه قول الشاعر الصوفي التلمساني الملقب بالشاعر الظريف لرقة شعره وطرافته.. فعسى يعينك من شكوت له الهوى في حمله.. فالعاشقون رفاق
(وأهمس بأغنية شائعة تمزج بين حبنا وحب الوطن المعبأ بجراحات تنزف.. وأقول: (يا عشكنا….) تستفزك الاغنية بدلالاتها المنتمية الي..
ـ ولك كافي..
يزداد اعجابي وشغفي بمشاكساتك الرائعة، بل اظنها تزيدني عشقا وتعلقا للتناقض الجميل بيننا، أدرك أنك ترغبين انتشالي من ورطة الوطن التي اتبناها بانتمائي اليها، اوانتمائها لي في دورة فايروس الوطنية الذي اعانيه، واعرف اني مصر عليه واعمل على نقل فايروسه اليك..تمانعين حد الرفض..لكنك تواصلين رغبة البوح بحب مسكون بموت مؤجل او بذبح على رؤوس الاشهاد..)/ص18ـ ص19..
فالنص يستثمر اسلوب التداعي والتفاصيل اليومية لإضاءة العوالم المعتمة ببناء درامي متصاعد كون المنتج ينسج عوالمه برؤية سردية تجمع ما بين المنظور السايكولوجي الذاتي والموضوعي باعتماد الكثافة الجملية واللغة الايحائية التي تتطلب قدرة على الاختزال مع رؤية تعبيرية تعتمد فنية (الالتفات في الاسلوب) بقدرة التنوع في الضمائر(المتكلم/المخاطب/الغائب..)وهو يعالج الصراع النفسي ويكشف عن دواخل الشخصية التي ترى ارض الوطن تنأى عنه(قد أغادر الوطن في أي يوم، او في اية ساعة..وتصححين عبارة(اغادر الوطن)في نبرة مشاكسة: (تهرب من الوطن)..وبتبجح اوافق على التعديل، وبابتسامة غرور تدركين ما اعنيه فتقولين برد حاسم: حسن، الا اوكفك على رجليك..)ص19.. اضافة الى تناوله الوجع الانساني(سياسيا واجتماعيا)بلغة موحية كي ترتقي من التعبير الذاتي الى افق التعبير الموضوعي يتميز بعمق الرؤية مع اشتغال على تركيبية الذات النفسية انطلاقا من معطياتها وسلوكها وتحولاتها، فضلا عن غلبة الطابع الميلودرامي على جسد النص مما اوقع السارد في براثن السرد الدرامي العاطفي..(حين تبتسم او اظن ذلك، او تلتفت نحوي بقصد او من دون تكون فيروز التي تطل من مذياع المحل الذي اقف عنده مقابل بوابة مدرستها، تتراقص امامي بكلماتها(سمرا يم عيون وساع.. والتنورة النيلية/المطرح ضيق ما بيساع رحب فيك بعينيه..)..تتفتح الدنيا مزارعا وزهوا وكأنه نبية العاشقين (فيروز) تمسح رأسها وتعمدها لعشق عاصف قادم، واعجب كيف تسعها عيناها..)ص9.. والغوص في اعماق الذات والذات الاخر بقدرة مازجة ما بين التصوير الخيالي والحدث السردي.. كما في توظيفه للهجة المحكية بألفاظها وجملها(يا عشكنه../ حسن الا اوكفك على رجليك..)والنعي النسوي(ردتك لحد ايام كبري/ او ردتك تنزلني بكبري//راح الولد عفية اعله صبري) ص27..الذي يكشف عن ماض الام وحاضرها وتوجهاتها الفكرية من خلال توظيفها(النعي) الاسلوب التراجيدي الذي ملأ فضاء الروح نتيجة الفقد بلهجة استعارية..ونبرة جمالية موجزة العبارة وهي تعانق نبرة الحزن عند (ابن الريب):
يقولون: لا تبعد وهم يدفنونني واين مكان البعد الا مكاني / ص16
وكل هذه التقنيات الفنية والاسلوبية اسهمت في تطوير السرد وتناميه الحدثي..
(ـ أتأسف عليك، تمنيت ان تكوني لي من دون منازع، وان كان ملك الموت، كي تتكاملي كأنثى وحبيبة وزوجة..
ـ هيهات..ألم أقل لك من قبل: انتهى موضوعنا، انت زهدت بي ولا تقدر الامور بمقدارها، سر للأمام ولا تلتفت خلفك..
ـ (ورق النعناع) قصة نكتبها الآن معا..
ـ بالتوفيق..(صرنا قصص تتونس بينه الناس)مدري يبجون لو يضحكون؟ طبعا…لك ان تستهزئ فأنت لا يعجبك العجب..علراحتك.. )ص68..
فالسارد في نصه يربط الاحداث بوحدة موضوعية مؤطرة بزمكانية كاشفة عن واقع مأزوم مع اغتراب داخلي مما جعل الشخصية تفكر ببديل فضائي آمن باعتماد تقنية الحوار الذاتي ..السرد الصامت، اذ العودة الى الماضي عن طريق الارتداد او الرجوع الى الخلف flash back وقد تحقق ذلك بتوظيف العبارة(من قبل)..
(الم أقل لك من قبل: انتهى موضوعنا. انت زهدت بي ولا تقدر الامور بمقدارها.. سر للأمام ولا تلتفت خلفك)..فضلا عن توظيف تقانة التكرار الجملي (سر للإمام ولا تلتفت خلفك)..كقيمة جمالية ودلالة اسلوبية توكيدية كاشفة عن الجوانب النفسية التي تنطوي عليها شخصية المنتج في تشكيل رؤيتها ووصف الحالة الشعورية التي تتملكها، وهناك التنقيط(النص الصامت) الدال على المسكوت عنه من القول فيستدعي المستهلك(المتلقي) لملأ فراغاته، اضافة الى التكثيف والايجاز بلغة استعارية، تصويرية في صياغاته الجملية، مع اقتصاد لغوي ينطلق من منظر رؤيوي يحدده المنتج لتحقيق نظرته الكونية من (ثقب الابرة)على حد تعبير رولان بارت..
وبذلك قدم المنتج نصا واقعيا بأحداثه ولغته وعوالمه التي احتضنتها الايقونة العنوانية الكاشفة عن منطق ورؤية قمة الهرم السلطوي وعلاقته بالوجود المجتمعي..