علي لفتة سعيد
كنت خائفا من هذه اللحظة التي تداهمني الان.. لحظة حاولت طوال عقدين ونصف من الزمن عدم اظهارها او التلويح أو حتى التفكير بالتفكير بها.. كأن ما حصل هو الذي جاء بهذا التذكّر وأوقعه من الذاكرة ليعيد نفسه الى بياض السطور والكتابة.. الرجل الذي كنت أراقبه وهو يتكوّن أمامي قبل عقدين ونصف، الرجل الذي خاض الحروب بالإنابة فوزّعته أشلاء في احدى قصصي .. جعلت كل جزء منه يهرب كلما صادف أمرًا أو شيئا.. أو حتى صادف جزءًا من جسده هاربًا منه.. حتى صار ( رجلٌ من فراغ) ..دوّنته في قصصي التي صيرتها مجموعة في كتاب فازت بجائزة الابداع.. كان يتوسل بي ألّا أجعله بهذا الحال.. فهو رجل فقير يريد الاعتناء بأمّه التي ظلّت تدعوا له، وتطلب منه ألّا يكون متقوقعًا منطويًا على نفسه، اسير هواجسه ويأسه.. فالحياة تستمر.. فهو ليس الجريح الوحيد في الحروب، وليس المعاق الوحيد في الحياة.. كنت أسمعه أنينها وتوسلاتها ودعواها الى الله، أن يمنّ عليه بالصحة والهدوء والاقتناع بما أراده الله.. لكنه كان يعاند تماما، ويرفض الخروج الى الناس، لأنهم لن يبالوا به أو يقدّروا تضحيته، بل أنه يتذكّر مرّة حين خرج الى السوق وكان يزحف وينظر بقلق الى الناس وهي تتحرّك بساقين كاملين، فتصوّروه متسوّلًا، رموا له أوراقًا نقديةً قليلة.. كان الحصار يكتم الانفاس.. بكت أمه كثيرا حين عاد إليها مكسورًا مقرّرًا ألّا يخرج ولن يسمع توسّلاتها ولن يضعف أمامها.. رأيت دموعها التي ملأت ( شيلتها ) الجنوبية مثل مساءٍ مزّقته الصواعق والرعود والأمطار الغزيرة.. طلب لي في آخر لقاء له وأنا اسمعه رجاء أمه أن يفكّ أسر تقوقعه، أبقيه هكذا يراقب أمه ويسمع أدعيتها.. كنت قلقا من بقائه هكذا فقد تصل به الحال الى الانتحار النهائي، و أن الأم المسكينة تموت كمدًا وحزنًا ومرضًا عليه، وهي تراه يذوب أمامها.. وحين شبع توسّلات منّي ومن أمه خرج الى الشارع.. الى الناس.. هاله ما رآه من عذابات متفاقمة وآراءٍ جديدةٍ وكلامٍ لم يسمع به من قبل.. كانت قدمه المقطوعة في الحرب تركض أمامه.. لتتبعه الأجزاء الأخرى لا تريد العودة الى جسده.. ليس المشكلة بموضوع تحوّله الى رجلٍ ليس له إلّا لسانٍ يمدّه في الشارع ولا أحد يراه أو ينتبه له أو يعيره أهمية!!.. المشكلة أني رأيته في قصص أخرى وروايات قرأتها.. رأيت هذا الرجل من فراغ من تحوّل بجهدٍ سرديٍ وتعاد له الحياة.. قرأت من أعده وجمّعه وتحدّث معه ايضا. وراح يكلّمه ويصوّره بأشاءٍ أخرى، وقد ملأ الفراغ الذي كن عليه في ذلك الزمن.. حوّله البعض الى رجلٍ خارقٍ يمارس القتل نكايةً بيأس الواقع وجلدا للذات.. أو إنه يمارس هواية الخديعة على الآخرين.. و أن الأم التي تشبه هذا الرجل كانت قد ولدت دميةً مثلا، وإن جميع اولادها الذين ولدتهم بعد الدمية، قتلوا في الحروب وعادت الى الدمية تمارس أمومتها، كونها لا تستطيع إعادة بناء الجسد مثل الدمية. حتى ان الناقد الذي تحدث عن رجل الفراغ في كتابه النقدي ربما سمعته يقول إن الأمر توسّع كثيرًا.. وقد تناسل هذا الرجل الى أوضاعٍ مختلفة.
لم يكن أمامي إلّا ان أعود الى الرجل الذي صيرته لأراه كيف صار وأتحدث معه.. اخبره أني لم أنسه أبدا، فهو أيضا صنعيتي وأنا من أردت له مقاومة يأس الواقع والحياة لكنه فضّل الهرب على المواجهة.. أردت أن استدعيه وأراه.. هل يبس لسانه؟. هل عاد إليه البصر ولو بعينٍ واحدة؟ هل تمكن من جمع ساقٍ واحدةٍ أو ذراعٍ واحدةٍ ليعود الى الحياة ويمارس حياته في التظاهرات مثلًا، مطالبا بأنصاف من أمثاله وملء الفراغات في أجسادهم.؟ وهل يمكن أن أعيده الى الحياة لأن الحروب توقّفت على الحدود وان الطغاة غادروا الحكم؟
قلت لا يهم.. فتحت مجموعتي القصصية ورحت أشعل البخور لأقرأ من خلل الصواعق ما يمكن أن يعيد لي الشوارع التي مرّ به قبل عقدين ونصف.. انتظرت لساعتين حتى كاد الفجر أن ينبلج، لحظتها صرخت .. أيها الرجل الذي كانت تتوسّل أمه ليخرج.. ويتوسّلني ألّا أوزّع أشلاءه.. ألّا تأتي؟ احتاج الى لغةٍ أخرى منك لأدرك نتائج ما صنعته؟ لم أحصد غير الصمت والانتظار ولا اقول الخيبة.. وحين طرّ الفجر أصابني النعاس وأغمضت عينيّ.. لحظتها مرّ الهواء أمام وجهي، وشممت رائحة إنسان، وشعرت بيدٍ ترفع يدي اليمنى التي دوّنت تفصيل الحكاية.. لكنها لم تلمس عيني لأرى. فقط مرّ الكلام على أذني.. دعني أعيش بأمان.. فأنتم الممتلئون لا قامة لكم .. تملؤون أوراقكم بمعناي وفراغي.