إسلام أبو شكير
لم يخطر في ذهني أبداً أنّ الحبّ يمكن أن يقع بهذه السهولة، ولأسبابٍ من هذا النوع..
ماذا يعني أن أتنحّى جانباً كي أفسح المجال لكِ لدخول المصعد أوّلاً؟ ما الغريب والمفاجئ وغير الاعتياديّ في هذا؟
بعد ساعةٍ كتبتِ لي:
– وصلتُ الآن. شكراً لكَ على هذه الحركة المهذّبة. لا. لا أعني الشكر تحديداً. أعني أنّني.. أحبّكَ.. نعم.. هذه العبارة أفضل.
هكذا.. بهذه البساطة؟!
والواقع أنّكِ كنتِ أشجع منّي في الاعتراف. كنتُ سأكتب لكِ شيئاً مشابهاً، لكنّني تردّدت. قلتُ في نفسي:
– أمرٌ مضحك. الملايين من الرجال والنساء يجدون أنفسهم داخل المصاعد كلّ يوم. لكنّ المصعد ليس غرفة نوم، ولا حتّى حديقة أو صالة سينما. أو ما أشبه ذلك من الأماكن التي تشجّع على نموّ مشاعر خاصّة.. ليس هذا سبباً مقنعاً للحبّ. لا شكّ أنّني مخطئ..
وقرّرت أن أؤجّل الأمر إلى وقتٍ آخر، ريثما يقع حدثٌ من مستوى لائق. حدث يستحقّ أن نقول إنّه مناسب لقصّة حبّ، مهما كانت صغيرة.
لكنّكِ قطعتِ الطريق عليّ برسالتك. نعم. لِمَ الإنكار؟ لنكن واضحين. هنا كانت البداية فعلاً. أنا الذي كان داخل المصعد إلى جواركِ، هو شخصٌ آخر يختلف كلّيّاً عمّن كان خارجه قبل لحظات. كلّيّاً. وبالمطلق.
خارج المصعد لم أكن أحبّكِ. داخل المصعد أصبحتُ أحبّكِ.
يشبه الأمر حادث سير مفاجئاً. أو سقوطاً من قمّة جبلٍ نتيجة انزلاق القدمين. أو إعلاناً بتتويج رجلٍ فقيرٍ بسيطٍ ملكاً بسلطاتٍ مطلقةٍ تجعله الآمر الناهي.
تخيّلي كم ترتّب على هذا الحدث الجديد من تغيّراتٍ هائلةٍ وعميقةٍ لم تبدأ بنبرة صوتي التي بدت لحظتها أكثر دسامةً ولمعاناً ونعومةَ انزلاقٍ بين أوتار حنجرتي، ولم تنتهِ بإحساسي بأنّني أصبحتُ بلا وزن. وأنّني أطفو. وأنّني أتبخّر. وأنّني أحلم. وأنّني عندما صافحتُكِ إنّما كنتُ أناومك.
لهذه الدرجة.
بين لحظة وقوع الحبّ، ولحظة إعلانه من طرفكِ، ساعةٌ تقريباً. ساعةٌ من الصمت. لا أدري بمَ كنتِ تفكّرين خلالها. من جهتي حاولتُ التهرّب من مواجهة الحقيقة. قلت:
– مجرّد وهم. أتحمّله الليلة، وسيتبدّد. أنا واثقٌ من أنّني سأصحو غداً وكأنّ شيئاً لم يكن. أصحو وأنا لا أحبّكِ.
ثمّ جاءت رسالتكِ.
لستُ غاضباً بالطبع لأنّكِ قطعتِ الطريق عليّ، ولم تمهليني إلى الغد كما كنتُ أمنّي نفسي. كلّ ما في الأمر أنّني أتساءل عن السبب.
تذكّرت..
هنالك شيء قد يكون وراء هذا كلّه.
قبل حادثة المصعد بشهرٍ تقريباً، الاحتفال الذي أقامته الشركة بمناسبة ذكرى تأسيسها، كانت المسافاتُ بين الطاولاتِ ضيّقة. الأغبياء. مع أنّ المساحة تكفي لتوزيع الطاولات بطريقة أفضل. لن ينفع الكلام الآن، ولن يغيّر شيئاً. غباؤهم كان وراء ما حدث. احتكاكٌ غير مقصود بيننا ونحن نحاول أن نمرّ في اتّجاهين متعاكسين. كلّ منّا أدار ظهره للآخر وحاول المرور. أذكر أنّ مؤخّرتينا احتكّتا ببعضهما.
لا، لا، لا، انسي الأمر. ليس هذا سبباً منطقيّاً. كان مجرّد حادث. وأعتذر لوقاحتي في الحديث بهذه اللغة. (المؤخّرة) ليست من الألفاظ التي تجري على لساني عادةً، لكن هذا ما وقع فعلاً. سامحيني عليها أرجوك.
حسناً، لا بدّ من سببٍ آخر.
يخطر في ذهني الموقف الذي تلا حادثة احتكاك مؤخّرتينا (معذرةً مرّة أخرى). في الاحتفال نفسه. انفراط العقد الذي كنت ترتدينه. ثمّ انشغال الحضور بالبحث عن حبّاته أسفل الطاولات، وبين الأقدام، وفي زوايا الصالة. تمكّنوا من جمع حبّاته كلّها باستثناء واحدةٍ ظلّت ناقصة. لاحظتُ حجم الحزن الذي كسا وجهكِ ساعتها، إلى درجة أنّكِ غادرتِ الاحتفال قبل نهايته.
في اليوم التالي جئتُكِ بالحبّة الناقصة. لقد وجدتُها، لكنّني احتفظتُ بها في جيبي. لا أدري أيّ شيطان وسوس لي بهذه الفعلة! لكن هذا ما حدث.
قدّمتُها لك حينها مع وردة. اعتذرتُ لكِ:
.– لم أكن أقصد إيذاءكِ. مجرّد مزحة. لكن يبدو أنّها كانت سمجة
وضحكتِ.. عن الضحكة أتحدّث.. تلك الضحكة بالذات. هذا ما أريد الوصول إليه. كانت ضحكةً مختلفة. أذكرها جيّداً. أسمعها منكِ أوّل مرّة. كلّ الضحكات السابقة كانت رسميّةً ومتحفّظة، أمّا هذه فكانت من القلب.
أتحدّث عن ضحكتكِ تلك بوصفها سبباً محتملاً، وإن كنتُ لا أزال مصرّاً على أنّ الحبّ يأتي عادةً لأسبابٍ أكثر عمقاً وإثارة. لم أسمع من قبلُ عن حبٍّ تشعله ضحكة، مهما كانت صافيةً، ومن القلب.
بصراحة.. لقد تعبتُ من التفكير. لم أصل إلى نتيجة. الأفضل أن أنسى الموضوع كلّه..
هنالك ما هو أهمّ.
تريدين أن تعرفي ما هو هذا الأهمّ؟
حسناً، سأقول لكِ..
لم تعد تشغلني الأسباب المحتملة لهذا الحبّ. ما يشغلني هو هذا السؤال:
ماذا سأفعل بهذا الحبّ كلّه؟ كيف يجب أن أتصرّف؟ التجربة جديدة عليّ. لا تشبه ما قبلها. أشعر بالارتباك والخوف والقلق والفرح وأفكّر –جادّاً- ألّا أحبّكِ.
عن مجلة الجديد