محمد زكي ابراهيم
لكي تكتب نصاً (ما بعد حداثياً) ما عليك سوى أن تأخذ بنصائح كبار رموز هذه الموجة، الذين يحتفي بهم النقاد لدينا، بمناسبة أو بدون مناسبة. ويعدونهم أمثلة لما بلغته الآداب الأوربية من تطور. وأحد أهم كتاب ما بعد الحداثة في الولايات المتحدة هو وليم بوروز (1914 – 1997). وهو مدمن هيروين، مثلي الجنس، استبعد من الخدمة العسكرية لهذين السببين وغيرهما، قتل زوجته بإطلاقة مسدس في مكسيكو سيتي عام 1951 وعوقب بسنتين سجن مع وقف التنفيذ. بوروز هذا ينصح من يروم كتابة نص حداثي بالآتي “خذ صفحة أو أكثر من كتاباتك أنت أو أي كاتب آخر. قصقصها أجزاء بمقص أو مدية، لا فرق. ثم أعد ترتيب الأجزاء. انظر بعيداً، واكتب النتائج. إن استعمالات طريقة التقطيع غير محددة أدبياً، فهي مقصوصة من حدي الزمن، فأسطر كلمة قديمة تجعلك باحتذاء كلمة قديمة ..”!
هذه النصوص التي يكتبها هي جزء من تجاربه التي سطرها في رواياته ومؤلفاته (18 رواية، 6 مجاميع قصصية، 4 مجاميع مقالات). صرح ذات مرة أنه قام بتجارب عديدة باستخدام قصاصات الصحف، التي تذكره بشئ كتبه من قبل “أقص الصورة أو المقالة، وألصقها بجانب الكلمة التي كتبتها.. أمشي في الشارع، وأشاهد مشهداً من كتاب فألتقط له صورة، وألصقها في كتاب القصاصات، ثم أحلم في الليل بحوادث تتعلق بالكلمة والصورة في تلك الصفحة .. “.
ويبدو أن ما يكتبه بوروز الذي اختير عضواً في الأكاديمية الأميركية، أو سواه من (الدادائيين والسورياليين) لا يخرج عن هذا. فهو ليس سوى أفكار لاعقلانية. غايتها أن تقدم خيالاً مريضاً، لا تربطه بالواقع صلة. وكما يعرف الجميع فإن الدادائية حركة ثقافية انطلقت في زيوريخ بسويسرا اثناء الحرب العالمية الأولى، هدفها رفض الحرب من منطلق فني، وشعارها (لا للفن). كانت تسعى لتخريب كل أشكال الفن التقليدي، وتتبنى منطق الفوضى والرفض. وقد انخرط فيها كتاب وفنانون وشعراء في حقبة ما بين الحربين، لاعتقادهم أن العقل والمنطق هما وراء كل ما عانته البشرية من آلام. ومن الدادائية خرجت السوريالية كحركة فنية تتحدى (المنطق) من خلال الأحلام، والعقل الباطن، والخرافة، وغير ذلك.
كانت هاتان الحركتان في الأصل المناخ الذي تطور في ما بعد إلى ما أطلق عليه اسم ما بعد الحداثة. ولم يقتصر على الفن والأدب، بل تعداهما إلى العلم، والهندسة، والاقتصاد، والسياسة.
وقد يعتقد البعض أن لا ضرر من اعتماد أشكال أدبية أو فنية تقوم على محاربة ما هو سائد. غير أن تزييف الفن، وتحطيم علم الجمال، وإشاعة الفوضى، ما هي إلا مقدمات لتدمير المجتمعات الإنسانية. لقد عانى الغربيون كثيراً من سطوة المادة وتغول الرأسمالية، وانقادوا دون وعي منهم إلى حروب وحشية في القرن العشرين. وكان عليهم العودة إلى قيم العدالة والمساواة، بدلاً من العبث والجنون. فليس هما الحل الأمثل للمشكلة على أية حال.