سلام مكي
نشرت قبل أيام جريدة الصباح وفي صفحتها الثقافية ملفا خاصا عن خيانة المثقف، أعده الاستاذ صفاء ذياب، في محاولة منه، لتسليط الضوء على هذا الموضوع، القديم قدم المثقف، والجديد ما دام المجتمع يشهد حركة وتفاعل مع الحياة والواقع، بكل تفاصيله اليومية. ما ذكر في الملف، من خلال المقالات والحوار الذي أجراه ذياب مع الكاتب ناظم عودة، يتناول أهم ما يخص خيانة المثقف، وأدواره في تثبيت دعائم الخيانة. ومفهوم الخيانة، ينصرف إلى معنى مضاد وهو الوفاء. وقبل تحقق الخيانة أو الوفاء، لابد من وجود قضية أو مبدأ كي يتم الوفاء له أو خيانته. فهل يملك المثقف العراقي قضية، كي يخونها أو يوفي لها؟ إن قضية المثقف بالأساس، ليست مسألة شخصية، ولا توجد قضية أو مبدأ خاصة بكل مثقف، بل إنها عامة، وهي قضية واحدة لكل المثقفين. وهي المجتمع. المجتمع هو قضية المثقف، وهو المحرك الأساس، الذي على المثقف، أن يمارس دوره ضمن إطاره وأسسه. وعلاقة المثقف مع المجتمع، ينبغي أن تكون علاقة نفعية، تبادلية، والنفعية ليست مادية بالضرورة، بقدر ما هي معنوية، شعورية، فكرية. ذلك أن المثقف، لا يملك سوى سلطة الكتابة، والتأثير. وكلما ازدادت أواصر تلك العلاقة، زادت شرعية وجود المثقف، وتوسعت دائرة قضيته بالنتيجة. قضية المثقف، كما قلنا تستمد شرعية وجودها، مما تقدمه للمجتمع، أو بالأحرى، مدى قربها منه.
ولعل الشاعر، معني أكثر من غيره، بالقضية، خصوصا في ثقافتنا التي يشكل الشعراء فيها نسبة كبيرة. رغم أن المثقف، كلمة واسعة، فضفاضة، لا يشكل الشاعر فيها سوى جزء قليل، إذا ما اعتمدنا التعريفات الكثيرة للمثقف، كما إن المفهوم الضيق للمثقف، لا يقصر المثقف على الشاعر، فهنالك الكاتب، القاص، الروائي، محرر الأخبار… الشاعر، امتلك مساحة أوسع من غيره، في الحياة الثقافية العراقية، والنظام السابق بدوره، استعان بالشعراء أكثر من غيره، في تصدر المشهد الثقافي الرسمي، وهم كانوا على قدر عال من المسؤولية في القيام بدورهم على أتم وجه، في تلميع صورة النظام، ودفن الجثث المحترقة والتي قلتها الجوع والحصار والتغييب والعذيب، بكم هائل من القصائد التي تمجد الجلاد، وتبرئ ساحته من تلك الفظائع. والشاعر، أقدر من غيره على ارتكاب الخيانة، والأسرع في تلبية حاجات السلطة وخيانة القضية. رغم أن الكتب التي طبعت في زمن الحرب، لم تكن كلها شعر، بل كانت الرواية والقصة، في مقدمة الأجناس الأدبية التي صورت الحرب ومجدت النظام على أكمل وجه. واليوم، وفي ظل اللحظات الحرجة والقاسية التي يعيشها المجتمع، وفي ظل الخلخلة التي أحدثتها انتفاضة تشرين في بنية العملية السياسية ولا نقول السلطة، لأن السلطة، غاليا ما تكون ممسكة بدولة وليست مجموعة كيانات سياسية، تدير مؤسسات حكومية، لابد من إعادة طرح مفهوم ” الخيانة” ولكن خيانة الشاعر أولا، لأن الشاعر ساهم ويساهم في خيانة القضية. مع القول أن القضية أصبحت نسبية، والكل، يرى أنه صاحب قضية، والشاعر الخائن، يرى أنه يدافع عن قضيته وأن الآخر هو الخائن وليس هو، وهذا في زمن التشظي والتفكك القيمي والفكري وحتى الأخلاقي. فهل يمكننا اليوم، تأسيس خطاب ثقافي حقيقي، لا يكشف قضية المثقف، أو بالأحرى، قضية المجتمع، بل ينشئ ويؤسس لقضية جديدة، على أنقاض ما موجود من خلافات وممارسات فوضوية وهدامة. ما يشكل علامة فارقة في خيانة الشاعر، أنه لم يخن قضيته بالشعر، بل خانها بالنثر! فسابقا، كان الشاعر، يخون قضيته عبر القصائد والنصوص، واليوم، ربما اكتشف ذلك الشاعر أن الشعر غير قادر على مواكبة الأحداث المتسارعة، رغم التسهيلات الكبيرة التي قدمتها قصيدة النثر، وما جاء بعدها من قصيدة النص، والنص المفتوح!