د. عبد الكاظم جبر
لا يخفى أن القافية شريكة الوزن في الاختصاص بالشعر، ولا يسمى الكلام شعرًا حتى يكون له وزن وقافية؛ فهما أساسان في الشعر، بحسب نظرية عمود الشعر عند المرزوقيّ. فهي تعطي الشعر نغمة موسيقية رائعة، وبقدر ما يكون فيها من حروف ملتزمة يكون لها إيقاع موسيقيّ مميز، كما أنها تضبط المعنى وتحدده، وتشدّ البيت شدًّا قويًّا بكيان القصيدة العام ، ولولاها تكون القصيدة مفككة. وهي، كما يقول النقّاد، تؤدي إلى تحديد حقل انتباه المتلقي وتضييقه بما يشبه بعض أعراض التنويم المغناطيسيّ، فالمستمع إلى الشعر التقليديّ يشعر بطرب ونشوة تدفعه إلى إغلاق منافذ الاستجابة بوجه المنبهات الخارجية الأخرى، كما يوجِّه الواقعُ تحت تأثير المنوّم المغناطيسيّ حقلَ انتباهه إلى صوت المنوّم دون غيره، أمّا من يستمع إلى قصيدة من الشعر الحرّ، كما يرى الدكتور ثائر العذاريّ، فإنه سيكون في حالة يقظة وتحفز مهيئًا لاستقبال كثير من المنبهات غير المتوقعة، مع رغبة موزّعة على مجموعة من الحاجات التي تنتظر الإشباع أو الخيبة. فبعد أن ينشد المرسل البيت الأول من القصيدة، يكون المستمع عارفًا بالضرب الذي يختتم به التشكل الوزنيّ، وبهذا فإن جزءًا من القافية في مستوى الوزن سيكون معروفًا مسبّقًا، ومثله جزؤها في المستوى الصوتيّ، ما دامت كل أبيات القصيدة ستنتهي بالمجموعة الصوتية نفسها.
وعلى أساس من هذا التوصيف حدد الأقدمون عيوب القافية، بين عيوب مقبولة تتمثّل بـ (التكلّف، والثليم، والتذنيب)، وعيوب مذمومة ، أو قل ممنوعة، وهذه الأخيرة على قلة وقوعها، رصدوا لها أمثلةً تكاد تتكرر في معظم كتب (علم القافية)؛ وربّما كان تكرارها تحذيرًا من الوقوع في مثلها. ومن هذه العيوب المذمومة أو الممنوعة التي رأيتُ ضرورة الإشارة إليه؛ هو عيب (سناد الرِّدف)، وهذا العيب المذموم وجدتُ لها حضورًا مقلقًا في شعر الشبّان هذه الأيّام ، بل في مجاميع الشعراء اللامعين منهم، ومثلما (يكون الخطأ النحويّ مضعِفًا الثقةَ بصاحبه)، كما ذكر الدكتور سعيد عدنان ذات مرّة، فإن هذا العيب أيضًا يزري بصاحبه ويغضّ من قدره ، إنْ لم يتدارك ذلك ويطوي عنه، ليحفظ عليه شعره ويستأنف نسجه .
و(الرِّدف) مأخوذ من ردف الراكب؛ لأن الرَّوِيّ أصل فهو الراكب وهذا كردفه، والردف في الاصطلاح هو ما يقع قبل الروِيّ مباشرة من غير فاصل، ويكون من حروف المد الثلاثة، وحروف اللين وهي الواو والياء الساكنتان بعد حركة غير مجانسة لهما، والألف تعدُّ أصلًا. ويجوز في الياء والواو أن تتعاقبا في القصيدة الواحدة، ويجوز أن يكون الرِّدْف والرَّوِيّ من كلمة واحدة أو كلمتين، ولا تُعدُّ الياء أو الواو المحركتان أو المشددتان ردفاً.
و(سناد الردف) هو أن يأتي الشاعر ببيت غير مردوف مخالفًا بناءَ قافيته المردوفة، أو العكس، وقد تقبّله النقاد والعروضيون في بعض النتف الشعرية، على نحو الشذوذ ، أو تجرّعوا قبوله لما فيه من سمو المعنى كما في، البيتين الآتيين:
إذا كنـــــــــــــــــتَ في حاجــــةٍ مرسلًا
فأرسلْ حكـــــــــــــــــــــيمًا ولا توْصِهِ
وإن بابُ أمــــــــــــــر ٍ عليـــــك التوى
فشـــــــــــــــــاور لبـــــــيبًا ولا تعْصِهِ
فحرف الروي – في البيتين – الصاد، وحركة مجراه الكسرة، والهاء وصل، وحركة نفاذها الكسرة التي عند إشباعها تكون حرف الخروج ،ولكن الواو الساكنة – في البيت الأول حرف ردف ، في حين أن العين الساكنة في البيت الثاني حرف صحيح غير معتلّ فهو ليس بردف .
وممّا هذا مجراه أن تجده وتأسف عليه عند الشاعر المصريّ (أحمد بخيت)، في قوله:
يَحــــــــكِي لعينيكِ – لو تـــــدرينَ- ما يحكي
عــــــــاشَ الذي عـــــــــــاشَ في أيامِ عينيكِ
صــــــــــــــــباحُ عينيكِ يا شَمسِي ويا قَمَري
يا ضِحْـــكَةَ الشـــــوقِ في عينيِ التي تبــــكي
يومـــــانِ للقلبِ : يـــــــــــــــومُ العِشقِ يَتبَعُهُ
يـــــــــــــومُ الحنينِ فــــــــــــوا شوقي ليومَيْكِ
أسطــــــــــــورةُ القلبِ أن يأتي الشتــــاءُ غدا
في مـــــــــــاطرٍ دافئٍ في صَحـــــــــو كفَّيكِ
لمَّــــــــــــــا تَفَتَّحَ وردٌ في الزجـــــــــــاجِ هنا
عـــــــرفتُ أنَّ هُــــــــــنا أَسْنَدتِ خَــــــــــدَّيْكِ
أحكِــــــــــــــــي لِطـــاولةٍ – للآنَ – عاشقــةٍ
عـــــــن غربتي فيكِ لا عن غُربتي عـنــــــكِ
كُــــــــــنا افتقدنا يقينَ الحــــــــــبِّ مِنْ زَمــنٍ
حتّــــــى تَنَــــــزَّهَ هــــــــــــذا الحبُّ عنْ شَكِّ
مـــــــن آخرِ الأرضِ في المنفى يَظلُّ لــــــــنا
حلْــــــــــــــمُ العصافير أنْ تأويْ إلى الأَيْـــكِ
الدمـــــــــعُ أنثـــــــــى غمــــامٍ في سَما رجلٍ
مُستغـــــــــــــرقٌ فيـــكِ لا مُسْتـــوحشٌ مِنْكِ
ناديتِنِي مِـــــــــنْ وراءِ البـــحرِ ظـــــــــامئةً
أجابكِ (النـــــــــيلُ) في جَنبــــــيَّ لَبَّيْــــــــكِ
وهي قصيدة رائعة جميلة – بلا شكّ – لولا هذا العيب المشين الذي اعترى القافية، وأتى عليها!، ويظهر من خلالها أن الشاعر لم يعِرْ أهمية للحرف الذي قبل الروِيّ، فمرة يأتي به مردوفًا وأخرى يأتي به صحيحًا غير معتلّ، ويبدو لي أنه يجهل ذلك، وإلّا فما معنى أن يعاقِب بين حرف علّة وآخر صحيح قبل الروِيّ (الكاف)؟!. وكل هذا يستفزّ المتلقي ويقطع عليه نشوته الموسيقية وطربه للقصيدة، فالسلسلة المنتظمة من الأصوات الرتيبة؛ تدفع بمتلقي هذا النوع من الشعر إلى حالة من التفريغ الذهني، وعدم الرتابة والانتظام في القافية يعود على القصيدة بما هو غير حميد أو مرضيٍّ، والذي يبعث الحَزن ويؤكد الأسى أن مثل هذا يقع في نصوص شعراء عراقيين مهمين، لا يكترثون للتنبيه والإشارة!.