محمد زكي ابراهيم
لا يذكر الأدب الشعبي، إلا ويتبادر إلى الذهن الشعر العامي، الذي شاع أمره في القرن الماضي، وطفق الناس ينشدونه في المناسبات تارة، وفي غير المناسبات تارة أخرى!
واشتهر في بلاد العرب أشخاص برعوا في قول هذا النوع من الشعر، وأضافوا إليه، وجددوا فيه. وجمع بعضهم بين الشعر العامي والقريض، لكن التجربة لم تكن مشجعة دائماً. ومن هؤلاء أحمد شوقي أمير شعراء الفصحى، وعريان السيد خلف أمير شعراء العامية !
وأذكر في أحد “المرابد” أن ارتقى عريان المنصة، فخير الحاضرين بين قصيدة بالعامية وأخرى بالفصحى، فاختاروا جميعاً – وجلهم من شعراء النثر – الأولى. لأنهم يعلمون أنه فارسها، الذي لا يشق له غبار. وأن قريضه قد لا يختلف عما يكتبونه هم من أشعار!
غير أن الأدب الشعبي لا يعني دائماً الشعر. فهناك الكثير من الملاحم والقصص والسير والأخبار، التي تدخل تحت تعريف هذا النوع من الأدب، وإن كانت مكتوبة باللغة الفصحى. ولو كتبت بالعامية لضاعت واندثرت ولم يتبق منها شيء. لأن العامية تتغير بمرور الوقت. وما يفهمه الناس في زمن، لا يستسيغه آخرون في زمن ثان !
ولعل أبرز الأمثلة على الأدب الشعبي قصص ألف ليلة وليلة، وسيرة عنترة بن شداد، وتغريبة بني هلال، وشعر الشجن الحسيني. فهي نماذج متوارثة تلامس مشاعر مختلف طبقات الشعب. وكان القصاصون يتلونها في المقاهي والتجمعات والمنتديات الخاصة، بسبب تعلق الناس بها، وشغفهم بما فيها من عبر ودروس وحكم ومواعظ وتواريخ، وغير ذلك.
وقيل أن هذه الملاحم إنما ظهرت في وقت تراجعت فيه حظوظ العرب بين أمم الأرض. فحاولت هذه السير التي لا يعرف كاتبها أن تبعث فيهم العزيمة وروح الإقدام. وهذا هو سر ما فيها من مبالغات.
والواقع أن الأدب الشعبي بكافة صنوفه ونماذجه كان النمير العذب الذي يغذي أحلام العرب على مر العصور. وحينما بدأت النزعة القومية في الظهور مطلع القرن الماضي، وجد العرب فيه ضالتهم المنشودة. وعده كثيرون جزء من الثورة على الواقع، وضرورة من ضرورات التنمية. فالخصوصيات هي من عناصر الثقافة، ومن عوامل انبعاث الشعور القومي، ومن دوافع وحدة الهدف والمصير. ولا ريب أن الملاحم الآنفة الذكر تقرأ في كل بلاد العرب، وتستحوذ على إعجاب كافة الطبقات. وقد ترجمت إلى مختلف لغات العالم فنالت الكثير من الإعجاب. وتناقلتها الشعوب الحية جيلاً بعد جيل، وتأثرت بها أيما تأثير، لأنها جسدت قيم البطولة والشجاعة بأعظم ما يكون.
لقد عمل بعض الأشخاص في العراق على إحياء الموروثات الثقافية، والعناية بالرموز والآثار والأبنية، التي مازالت قائمة إلى اليوم. لكن الجهد المبذول – على فضله – لم يتكلل بالنجاح. فقد تردد في حقبة ما أنه يكرس العزلة، ويضعف أواصر الأخوة. لكن أحداً لم ينكر أن الأدب الشعبي إذا ما درس بعناية فسيكون من أهم أركان النهضة، ومن أجل عوامل التقدم، في كل بلاد العرب.