تدوين لسنة حاسمة في الشأن الفلسطيني
شكيب كاظم
إذا كان عديد الروائيين ممن يتناولون في رواياتهم حوادث حصلت حديثا، وإن شخوصها أو بعضهم مازالوا على قيد الحياة، ولغرض التخلص من الإحراج واللوم أو الشكوى القضائية، فإنهم يصدّرون رواياتهم بما معناه: إن هذه الرواية من نسج الخيال، وأي تشابه في الحوادث، مع أناس حقيقيين ما هو إلا محض مصادفة، أو ينفي أن يكون الراوي هو الروائي ذاته، ومن ذلك ما فعله جبرا إبراهيم جبرا في روايته (البحث عن وليد مسعود) لا بل أنه في روايته (صيادون في شارع ضيق) يوغل في محاولة النأي بنفسه عن وجع الرأس! يؤكد: “وليس من بين الشخصيات من هو مستند على أشخاص حقيقيين، وليس أيما تشابه بين الراوي جميل فران والمؤلف، إلا في أن الإثنين قد غادرا بيت لحم إلى بغداد عام ١٩٤٨ لشغل منصب تعليمي في إحدى الكليات”.! فإن الروائي والباحث السياسي الفلسطيني فيصل الحوراني، المولود في قرية المسلمية بفلسطين سنة 1939،ونزح مع أسرته نحو سورية بعد حلول الكارثة سنة 1948، وظل يتوق- كما يقول- على الرغم من السنين إلى العودة للوطن، إلى المكان الذي يخصه، المكان الذي حرم من العودة إليه، والناس الذين يتوق للاختلاط بهم، ولا سيما بعد أن عاد رهط من أصحابه؛ بعد أن لاحت فرصة العودة إلى فلسطين، وهنا يشير فيصل الحوراني- كما أرى- إلى إتفاقية أوسلو سنة 1993 بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وما تمخض عنها من نتائج، ومنها إقامة السلطة الفلسطينية،اقول: فإن الروائي فيصل الحوراني، وهو يتحدث عن نحو سنة من تاريخ فلسطين الحديث، وتحديدا منذ بداية شهر مايس/ مايو 1948، وعن قرية فلسطينية شاء فيصل الحوراني أن لا يسميها، بل سمى القرى المجاورة، وتخفى وراء الراوي المركزي، الذي شاءه أن يظل مجهولا للقراء.
سنة من تاريخ فلسطين
ولأنه رأى أننا سنبحث عن سبب ذلك، فهو يكفينا مؤونة السؤال معللا ذلك:” إن الناس الذين أتحدث عنهم كانوا كلهم عزيزين علي، وما زال كثيرون منهم أحياء، وأنا اخجل من أن يعرفني هؤلاء فيلومونني على ما أفعله حين اقدمهم (..) بالصورة التي كانوا عليها (..)، في حين أنهم تبدلوا، وانتهوا إلى مصائر لا توحي بها الأحداث والمواقف التي سأحكي عنها، أو يلومونني على تحويرات اقتضتها طبيعة الرواية أو أخطاء فرضها ضعف الذاكرة، في الحديث عنهم، أو عن من احبوهم ممن رحلوا”. ص 7 من الرواية.
فيصل الحوراني الروائي الباحث السياسي، الذي عمل امدا طويلا في مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، ومقره كان في بيروت، وحتى التوغل الصهيوني في لبنان في شهر حزيران/ يونيو 1982، وقيام قوات العدو الصهيوني بنقل محتويات المركز بشاحنات نحو الأرض المحتلة؛ الحوراني كي يتخلص من الحرج فإنه اختار هذه الفذلكة، كي ينعم بالحرية الواسعة في تصوير حياة قرية فلسطينية، على مدى نحو سنة كما أسلفت القول، منذ أن ازمعت قوات الإنتداب البريطانية على أن تجلو من الأراضي الفلسطينية، في منتصف شهر مايس 1948، وقبل ذلك صدور قرار التقسيم الدولي خريف سنة 1947، جزء لعرب فلسطين، وآخر لليهود، وحتى دخول الجيوش العربية، التي كان المجاهدون الفلسطينيون يعوّلون عليها كثيرا، ويتوسمون فيها خيرا، ولكن بيروقراطية هذه الجيوش وبطء وصول الأوامر والتعليمات، لا بل،( ماكو أوامر) باللهجة العراقية، هذه الكلمة التي ذاعت في أوساط الفلسطينيين وقتذاك، وتعني أن لا أوامر! ومازالت في الذاكرة دراسة قيمة كتبتها الباحثة الفلسطينية الدكتورة خيرية قاسمية عن هذا الموضوع، وهي تقدم مذكرات المجاهد الفلسطيني عوني عبد الهادي (توفي سنة 1970).
تلمس ذلك- أي وصول الجيوش العربية- من خلال الوفد الذي قاده ( أبو جهاد) قائد فصيل القرية المجاورة،( قرية الخيام)وصاحب الخطط القتالية الدقيقة للقاء بضابط مصري عالي الرتبة في القدس، كي يعرض أمامه الوضع القتالي الصعب، ولا سيما محاولة ( قوة الهاجاناه) الصهيونية، استعادة معسكر وادي الصرار من المجاهدين، الذين قادهم أبو جهاد ليلة الانسحاب البريطاني منه، وباغتوا قوة الهاجاناه، التي كانت تعد العدة للسيطرة عليه، حتى إذا انهالت الأسلحة من الجو والبحر على الصهاينة، قرروا استعادته، لكن لم يجد لدى الضابط المصري الأنيق الحليق، الذي نزل في مبنى بلدية القدس، سوى الوعود، لا بل جعل الوفد المرافق لأبي جهاد ينتظر خارج المبنى! والأنكى أن الجندي حارس المبنى صرخ بأعضاء الوفد، أن ممنوع الوقوف هنا لامؤاخذة ياحضرات!
تصوير للحياة كما هي
الروائي فيصل الحوراني في روايته (بير الشوم) التي أهداها: إلى أميل حبيبي.. رائدا ومناضلا، كان قريبا من حقائق الحياة والأشياء، فهو بخلاف بعض الخائفين في الدول الشمولية، أو المؤدلجين، يصور الإنسان وخلجاته كما هي في واقع الحياة؛ يصوره في ضعفه وقوته، جبنه وشجاعته، صغاره وشموخه، بخلاف عديد الروائيين الذين قرأت أعمالهم الروائية، مما عرف بأدب الحرب أو المعركة! حيث يؤكدون الجوانب الإيجابية فقط، وهذا مما لا يأتلف مع طبائع الحياة، ولأذكر نموذجا واحداً؛ الرواية القصيرة (مصير إنسان) للروائي ميخائيل شلوخوف، وترجمها حسيب الكيالي.
فيصل الحوراني، يصور الشخصية الانتهازية مختار القرية ( أبو خالد وليد أبو حامد)، الذي مالأ الأتراك حتى إذا رحلوا إثر الحرب العالمية الأولى، تعاون مع قوات الانتداب البريطانية، وظل صديقا للكابتن الإنكليزي، حتى الساعات الأخيرة التي سبقت الرحيل البريطاني ،لا بل إنه أَوْلَمَ وليمة فاخرة لجنود الكابتن الذين جاءوا لتفتيش القرية، حين نما إليهم أن شباب القرية ذهبوا لنجدة مقاتلي قرية مجاورة، وليدرأ عن نفسه وقريته أذى جنود الانتداب، ثم ما لبث أن مد يده للتعاون مع القيادة الفلسطينية في القدس ممثلة بالحاج محمد آمين الحسيني، لكن حين يطلب منه ( أبو جهاد) قائد فصيل قرية ( الخيام) التهيؤ لغرض السيطرة على معسكر وادي الصرار، الذي سيغادره البريطانيون وشيكا، يتذرع بشتى الذرائع كي لا يقاتل، وكي يمنع مجاهدي قريته من الاشتراك في القتال، وتتكرر تجارب التخاذل والجبن والانتهازية، فيقاطعه الناس وهو مختارهم! ، لابل يصل الحال أن يوبخه أحد شباب المجاهدين ( جواد) فضلا عن ( شعبان)، سائق العجلة التي تقل المجاهدين، فتصيبه لوثة تفقده عقله واتزانه.
رواية ( بير الشوم) للروائي الفلسطيني فيصل الحوراني، من روايات التاريخ، التي وثقت سنة مهمة وفاصلة من حياة الفلسطينيين، وهي إذا كانت وقائعها معروفة للناس الذين عاشوا تلك الأيام، فإنها ستكون وثيقة مهمة للأجيال الفلسطينية حالياً ومستقبلا، تبصرهم بالجهد الذي بذله المجاهدون الأوائل، دفاعا عن الأرض والعرض، وتبين لهم الخلافات في الوسط الفلسطيني، بين وحدات ( جيش الإنقاذ) ووحدات ( الجهاد المقدس) فضلا عن خلافات قاصمة بين الأسر الفلسطينية النافذة والمؤثرة، واستغلال العدو لهذه الفرقة ولهذا الاضطراب، كما توثق المشاركة الهشة للجيوش العربية، وغطرسة الضباط واستنكافهم من التعاون مع المجاهدين بحجة الخطط والضبط والربط، وضياع الأوامر ومن ثمّ ضياع فلسطين.