في تعقيبه على مقال لي طرح صديقي الدكتور نصير المهاجر الى المانيا منذ نهاية السبعينيات من القرن المنصرم، تساؤلا يشغل عقول الكثير من المهتمين بحال واحوال هذا الوطن المنكوب، الا وهو؛ لماذا لم تنهض النخب الوطنية والديمقراطية ودعاة الحداثة بمهمة تأسيس أحزاب ومنظمات مهنية تسد فيها الثغرات التي حصلت بعد التغيير ربيع العام 2003؟
مثل هذه الاسئلة التي تستدعي دور “النخب” تدعونا للتعرف على ما حل بهذه الشريحة قبل “التغيير” داخل الوطن وخارجه، لنفهم مغزى سلوكها ومواقفها. لن نكشف سرا عندما نضع هذه الشريحة على رأس قائمة اهتمامات النظام المباد ومؤسساته القمعية والمتخصصة بمسخ البشر، فمن لم تفلح في سوقه الى اصطبلاتها تمت تصفيته ومن نجى من مثل تلك المصائر لاذ بالصمت والانشغال بهموم واهتمامات لا تقلق سدنة ذلك الطاعون السياسي والقيمي الذي عصف بالتضاريس الممتدة من الفاو لزاخو. اما الناجون من تلك المحرقة (نخب الخارج والمنافي) فقد تكفلت بهم شروط الحياة في تلك المنافي واحزاب وكتل المعارضة المتنفذة فيها، لينتج عن كل ذلك خلطة نخبوية يعجز عن فك طلاسمها فرويد ويونغ بجلال قدرهما في مجال النفس البشرية.
ومن الاهمية بمكان الاشارة الى ما صدر من بيانات وقوائم باسماء المئات من تلك “النخب” التي سخرت اقلامها ومواهبها لخدمة الجلاد ومغامراته التي حولت حياة العراقيين الى سلسلة من الكوابيس؛ كانت فزعة املتها مناخات الحماسة ووغف العنفوان الذي رافق لحظة استلام شحطات اطفال بغداد لراس الصنم في ساحة الفردوس، اذ سرعان ما تلاشى بعد سلسلة من الحملات الممنهجة لقوى الردة، ادت الى ما نحن عليه اليوم من تيه وتشرذم وهوان. في تصفح سريع لخارطة المخلوقات التي تسللت الى سنام التنظيمات المهنية والنقابية والحزبية وما طفح من “منظمات المجتمع المدني” وغير ذلك من الكيانات والتيارات والجماعات؛ سنتعرف على نوع المسارب وحجم الكارثة التي طوقت حقبة “التغيير” وما انتهت اليه من مآلات. لذلك لم يمر وقت طويل حتى افرز المشهد الاصطفافات الحقيقية، والتي تعكس حال واحوال المجتمع وقدراته البائسة في شتى المجالات المادية والقيمية، والتي حاول البعض من “الافندية” القفز فوقها عبر سلسلة من سكراب المشاريع المتخصصة بالطبخ السريع للمراحل والتي انتهت الى حيث المستقر المعروف لمثل هذه الدقلات الرغبوية.
هذه اللوحة الملتبسة والمتشائمة لم تعدم من محاولات فردية ونشاطات مغايرة، سعت بكل ما لديها من امكانات ومواهب كي تؤسس لمسارات تتواصل مع أفضل ماعرفه تاريخنا الحديث، من تقاليد للنشاط السياسي الوطني والديمقراطي، وهي ما زالت حتى هذه اللحظة محدودة الامكانات والتأثير، مقارنة مع نفوذ قوى ومصالح وعقائد تغولت زمن النظام المباد ومع ورثته الحاليين، من الذين لا يختلف الكثير منهم عن اسلافهم بسكراب الرسائل الخالدة والممارسات والقيم. ان مهمة التأسيس لولادة احزاب وطنية وديمقراطية وسط هذا الكم الهائل من طفح “الاحزاب” والكيانات (أكثر من مئتي كيان وفقا لبيانات مفوضية الانتخابات) وما تبقى من ديناصورات الاحزاب التقليدية؛ يجعل منها مهمة عسيرة ولكن ليست مستحيلة، وسيكون على رأس ما تحتاجه كي تخط بدايات جادة لها؛ هو وعي حقائق هذا المشهد والذي اشرنا الى بعض من سماته العامة، بعيدا عن اوهام وحذلقات “الافندية” ومن ثم الهمة والمثابرة والنفس الطويل لتحويله الى واقع..
جمال جصاني