القسم الأول
حاوره: سلام مكي
- أسامة غالي، شاعر وكاتب وقارئ من طراز رفيع، تمتلك أدوات الناقد والكاشف عن مكامن النص، وما بين سطوره.. من الذي رمى بك الى سواحل الثقافة؟
في البدء، دعني أعرف السيرة بايجاز: (أسامة غالي)، هذا العنوان الوحيد الذي أمتلكه بثقة، ولي كامل الحرية بالحديث عنه، ليس هروباً من فخاخ الشاعر أو الكاتب أو الناقد، ولا تواضعاً خادعاً بالمرة، وإنما عن وعي بحمولات ومشكلات هذه الالقاب، وما يترتب عليها من مسؤولية كبرى، فما زلت في أول الدرب أزاول تمارين اللغة، وطرائق التفكير، واختبار الكتابة، وما زلت في كلّ هذا أتعثر مثل طائر مغامر بريء يضرب الريح بجناحيه متعكزاً على الأرض، ومتوسلاً السماء، وليس وراء هذا غاية ما، بقدر ما يحرضه هاجس الطيران، هذا الهاجس البريء الذي خُلق معه.
عن توصيف الشاعر الكاتب:
شخصياً لا أعنى بتجنيس ما أكتب، أو بتعبير أدق لست معنياً بهاجس الالقاب، فما أكتبه عبارة عن نصوص تأتي موزونة أحياناً على طريقة التفعيلة، أو محررة من الوزن، قريبة إلى النثر، ولم أبحث عن (عرصة) مميزة في الحي الشعري، فالكتابة عندي شغف وجودي، نعم شغف وجودي خاص، الكتابة في ما يشبه الشعر هي كوة بالنسبة لي أرى من خلالها العالم وأرتبط به، علاقتي بالشعر علاقة شخصية، مثيل حب نقي، لا أتدافع على منصات، ولا أقف على عتبات المهرجانات، ولا أزاحم احداً في عالم يسع الشعراء، كلّ ما أقوم به أكتب وكفى، غير أني في الضفة الأخرى أزاول الانتقاد، لا أقول النقد فهذه نبوة لا يجيدها سوى ذوي المعاجز الكبرى، بناءً على معطيات قراءة وخبرة في متابعة النقد و الشعر، فتارة أكتب عن ريادة السياب، وتارة أكتب عن تجربة الشاعر علي جعفر العلاق، وتارة عن صورة الشاعر في الثقافة العربية، وتارة أكتب عن قصيدة النثر، وتارة عن شعراء شباب، لا أقف عند جيلٍ أو شاعر أو ظاهرة بعينها، وإنما أميل لكلّ ما يستفز الكتابة، أو يحرض على قول رأي ما.
البدايات
نشأت في مناخ مليء بهواء الكتبِ وألوان الفن، أول ما فتحت عيني في مكتبة أبي رحمه الله، كانت الملاذ اليومي، أدخلها بمعيته متصفحاً الأغلفة، كنت بعد لا أجيد سوى القراءة البصرية، وحفظ العناوين وأسماء الكتّاب، مأخوذاً بهذا العالم الرومانسي، أجلس أحياناً أمام المكتبة أحصي الكتب، وأسأل ونفسي كيف اجتمعت؟!، وكيف استطاع أبي قراءة كلّ هذا السواد المحشور بين أربعة جدران؟!!، هذه البراءة الطفولية الأولى كانت وراء صلتي بالكتب، ثم القراءة، أتذكر أول ما قرأت كتب طه حسين، كنتُ لا أفقه منها شيئاً، كان هذا في السادس الابتدائي، مرة شاهدني أبي متأبطاً كتاب الشعر الجاهلي، فضحك بصوته المحبب، كيف لكَ أن تقرأ الشعر الجاهلي في هذا العمر، فعلاً لو شاهدت هذا المنظر اليوم لضحكت على ثقتي الزائدة بسخرية مفرطة..
إلى جوار الكتب كان الفن هو المحرض على التواصل الثقافيّ، أخوالي فنانون تشكيليون، وكان اللون معية العناصر الأخرى يغرس في تربة الوعي هذا الاهتمام المبكر بالثقافة، حتى أنني بدأتُ الرسم بشيء من جنون التجريب والمحاولة، فزاولت تمارين أولى، كانت المدرسة تقيم نشاطات فنية، حينها كنت في مدرسة (خديجة التطبيقية المختلطة)، وسمح لي التواجد في هذه المدرسة النموذجية المشاركة في أكثر من معرض اقامه النشاط المدرسي، وقد فاز لي رسمان حينها، ما زلت احتفظ بهما، ثم اخذني عن الرسم هاجس القراءة بشكل تام، مع بقاء الرغبة بمتابعة الفن وتفاصيله، بمتابعة نماذجه الكبرى عربياً وعالمياً، وكان المحفز لي في كل ما أقرأ عن الفن وأتابع تاريخه خالي الدكتور عاصم فرمان، لا أنسى أبداً فضله في هذا الاتجاه، حتى أنني عدت إلى مزاولة الكتابة عن الفن، ومزاولة التصميم، بتحفيز منه، وبعناية من آرائه، ولهذه الفقرة صلة بسؤالك القادم عن مجلة الثقافة العراقية
نشأت في هكذا مناخ، نشأة مبكرة، مع عناية شديدة من أبي وخالي الفنان الدكتور عاصم، وكانت ظروف القراءة والوعي متوافرة، بدءاً بالكتب بمختلف اتجاهاتها وتنويعاتها، القديم منها والحديث، ولا يقتصر الأمر على الأدب شعراً وسرداً وترجمة، بل كتب اللغة، والنقد، والتاريخ، والسياسة، والفلسفة، والاجتماع، وعلم النفس، وإلى جوارها مئات المجلات والصحف، يضاف إلى هذا، التحفيز العائلي بهذا الاتجاه، واتاحة الامكانيات التي توفر لي وقتاً كافياً للقراءة، فلم أنشغل منذ بداياتي بمشاغل جانبية، كلّ شيء يتصل بحياتي الخاصة متوفر بشكله الطبيعي وبلا عناء شخصي.
بقدر ما كانت هذه الظروف متاحة، كان عبء المسؤلية كبير جداً، فليس بمقدوري أن أترك القراءة وما يتصل بها بعد كلّ هذا العناء الجميل الذي قدم ليّ بلا مقابل، كان عبئاً ثقيلاً بصراحة، فمشقة القراءة ومكابدات الوعي ليست بهينة أو سهلة، وثمنها ليس بيسير، وفي ضوء من هذا وجدت نفسي في مواجهة عالم آخر خارج الكتب، عالم ليس بريئاً كما كنت أظن، عالم تسوده المجاملات، والتواطؤ، والتنافس غير النقي، والمدائح المجانية، والاحكام الجاهزة، والركود الكئيب، والمنافع الرخيصة، والاقصاء والتهميش، هذا على مستوى الموقف الثقافيّ، اما على المستوى القراءة، فمن عاشَ جوار المتون العالية، والآراء الجريئة، والكتابة الخلاقة، والذاكرة الحية، كيف له أن يتماهى في لحظة ما مع رداءة وابتذال واجترار ونسيان وانحدار فكري وكتابي ورؤيوي خطير!
لا أنسى أيضاً تجربتي الصوفية، عشت ما يقارب أحد عشر عاماً في النجف، بين مكتباتها وقبورها، قرأت التراث الفلسفي من أريسطو نزولاً للفارابي والسهروردي وابن سينا وصدر الدين الشيرازي معية ما انجزه المتكلمون على مختلف اتجاهاتهم، يضاف إلى قراءة المدونة الفقهية والاصولية والتفسيرية، ومع كلّ هذا كان المتن الصوفي ما يحفز الوعي، فقرأت متون التصوف الكبرى وما كتب عنها، ودخلت التجربة رفقة متصوفة على المستوى العملي، وهذا ما مكنني أيضاً من الاطلاع بروحٍ ووعي متأملين على ما كتب بالضد من هذه المتون والمدونات، فانشغلت بمتابعة المستشرقين، والمفكرين العرب، حتى أنني أتذكر، قضيت عامين كاملين بقراءة ما كتبه محمد عابد الجابري وما كتبه عن مشروعه جورج طرابيشي، ثم تواصلت مع ما كتبه حسين مروة في (النزعات المادية)، وما كتبه محمد اركون، ونصر حامد ابو زيد، وهادي العلوي، هذه امثلة ليس غير.