مايا العمّار
في زمن الحجر الصحّي، نطوّر آليّات غريبة للتكيّف مع «عزلتنا»، نتحسّر على زمن مضى لم تمرّ بضعة أيّام على انقضائه، ونصبح فجأةً كائنات أكثر حنوّاً… فما الذي يحصل؟
نتفقّد أحبّاءنا بين الفينة والأخرى. نتأكّد من أنّهم، مثلنا، توّاقون للقاء، وغمرة، وقبلة، وللعودة إلى أشكالنا ومساحاتنا ومسافاتنا السابقة. ننسى “الهلع” لنصاب بنوبة من الحنان والحنين، مع العلم أنّه بالكاد مرّت أيّام على انطوائنا على ذواتنا.
يزداد إرسال “الإيموجي» الضاحك في زمن الكورونا. يروجُ تبادلُ النكات والتعليقات الساخرة و»الميمات» على تطبيقات التواصل الاجتماعي، ومعه ينتشر الإيموجي الذي يُنقذنا من مشقّة اختيار كلماتنا وردود الفعل الملائمة. ينحصر القرار بين خيار الوجه الضاحك الملتوي، والوجه الضاحك المستقيم، والوجه الضاحك الذي تتوسّطه ابتسامة عريضة. وغالباً ما نميل إلى اختيار الأوجه التي تنهمر منها الدموع انهماراً يشبه انهيارنا جميعاً.
عموماً، نختار الأوجه التي تنفجر ضحكاً. حتّى لو لم تكن النكتة مضحكة لهذه الدرجة، يقع اختيارنا على الوجه المنفجر ضحكاً. وأحياناً لا تضحكنا النكتة البتّة، لكن نظلّ متمسّكين بذات الوجه الضاحك، احتراماً لمشاعر مرسلها.
نطمئن على أصدقائنا ونتحسّر على النهارات التي كنّا فيها أحراراً في اختيار مشاريعنا وقادرين على تنفيذها ساعة نشاء. نشتاق لهذا الـ»غوسيب» الحصري للغاية، مع يقيننا بأنّ الجميع، على الأغلب، يعلم به. والجميع يعلم بأنّ الجميع يعلم أنّ الجميع يعلم بأنّ الجميع يعلم… أتذكرون لعبة الإدراك المتتالي للوجود؟
«رأيتُ كيف أنّك تراني وأنا أراك تراني أنّي رأيتك تراني وأنا أراك تراني، إلخ؟». يحملنا رأسنا إلى ألعاب غريبة كنّا نستمتع بها في جلساتنا التي نتشارك فيها حضورَنا. وها قد أطلّت علينا اليوم حقبة الجلسات التي نتشارك فيها عزلتنا ونشتهي حضورنا.
نخال أنفسنا عظماء لبرهة، لمجرّد أنّنا التزمنا الوحدة لبضعة أيّام، فيما فلاسفة ومفكّرون ومرضى ويائسون ومتّهمون بالجنون وأناس خائفون كثر، انكفأوا على ذواتهم لسنين، طواعية أو مكرهين، رفضاً للتماهي مع أفكار خاطئة وارتباكاً أمام الاندماج في مجتمعات زائفة.
نحن الذين نُفَلسِف الكورونا في عزلتنا، لنا ترفُ التأمّل. لكن لا داعي للهلع من التفلسف والترف. فقد أصابتنا يقظةٌ، هي قطرة في محيطات اليقظات التاريخيّة. لا تعدو كونها محطّةً أخرى، ليست في الأساس بهذا القدر من السوء، بمقاييس أرشيف البشريّة.
ونحن في عزلتنا، نحن أيضاً في منتهى التصارع مع ذواتنا. «فليس يخلو المرء من ضد ولو حاول العزلة في رأس جبل»، كما قالها ابن وردي. تتفاقم التقابلات والتضادات في العزلة المتعاركة مع نفسها، وتتأزّم لدى اشتباكها مع عزلات الآخرين على السوشيل ميديا.
لم تعد العزلة في رأس الجبل. أصبحت العزلة عزلات، والمعزول لا يصحّ عدُّه معزولاً حقّاً. قد يُريحُ عزلتَه فعلُ التقائها بعزلات الآخرين، أو يُضاعفها. لكن بالتأكيد أنّ عزلته تلك لم تعد عزلةً جذريّة بمعناها الكلاسيكي، إنّما استحالت صنفاً جديداً من نفسها. نسخة تبدو أقرب إلى عالمٍ غير متصالح تماماً مع هويّته العالقة بين التمسّك بآليّات العاطفة والميل المتنامي إلى العواطف الآليّة.
بدأ العالم يستوعب بعض الشيء الشكل الآلي الذي اتّخذه في العقود الأخيرة. ساعد الغياب في استيعاب شكل الحضور. بتفاصيله الاصطناعيّة وملامحه الفظّة ومعاييره القيميّة. حلّ العالم في ذاته، واختبر بعضُه شيئاً من صمته.
ما أكملت العزلةُ أسبوعَها الأوّل بعد، وكمُّ الخلاصات تجاوز خطَّ المعقول. تفكَّر الكونُ في نُظُمه وهيئاته وبناه التحتيّة. ثمّ ردّد لنفسه أنّه حتماً في مكانٍ أفضل من ذي قبل، مع أنّ مشكلاته ما زالت عالقة في الأرض نفسها التي بعثتها.
لا رعاية صحيّة للجميع، لا معدّات طبيّة كافية، لا تعويضات للعمّال، لا خطط لدعم المياومين وحماية الموظّفين من التعسّف، لا إجراءات مناسبة للطاعنين في السن.
لا علاجات للمُكدَّسين في مخيّمات اللّجوء، لا اهتمام جدّياً بالتغيير المناخي، لا حدود للمنهجيّات العنصريّة والفوقيّة في التعامل مع المآسي، لا ضمانة لعدم تنافس الشركات المُنتجة للأدوية على حساب صحّتنا.
لا خلاص للعالقين في الحروب المعتادين على الأوبئة ولا للمعتقلين المتراكمة أجسادهم الهزيلة عظاماً فوق بعضها تحت مبانٍ مجهولة، لا تعزية للمرميّين في السجون المتروكين لاختناقهم واحتكاكهم الجسدي القسري وتحسّرهم، وحيدين مع أهلهم، على تغييب قرارات العفو.
لا مزاح مع طبيعة أُنهكت لن تتوقّف عن الأخذ والرد والعصف والزجر. وكأنّما بعلاقتنا المستجدّة مع هذا الضيف الكوروني لم نُرد له الاكتفاء برمي فيروسه علينا وحسب، بل أودعناه المصائب التي أبى الكثيرون سماع صرخات المتألّمين منها.
نحن مَن ألبسْنا الكورونا كناياتٍ كثيرة ومعانيَ تخطّت مادّيته لنُلبِس به مصائبَنا رداءً جديداً، علّنا نراها فنُريها بشكلٍ أوقح لمن تسبّب لنا بها. نراها لنُريها ونُرى أنّنا نراها… وهلمّ جرّا. لكن ما الذي يضمن أنّنا حين يغادرنا هذا الضيف، مشكوراً، لن نعود إلى التناسي… وإلى العزلة الطوعيّة؟
المؤّكد، في مجمل الأحوال، أنّنا لن نتوقّف عن إرسال الإيموجي الضاحك، لا بل يبدو أنّنا سنُكثر هذه الفترة من إرساله.
- عن موقع درج