علوان السلمان
النص السردي، نص يوائم ما بين رؤية إنسانية شغوفة بالحقائق من جهة وولعها بالخيال الحالم من جهة اخرى. والذي يقوم على اقتناص اللحظة الحدثية الواقعية وبلورتها لصالح كينونة لغوية تحيلها من الواقعي الى الجمالي في اطار بنية سردية تعتمد تقنيات فنية(زمانية بكل امتداداتها.. ومكانية بأنواعها مفتوحة ومغلقة وعتبة، وشخصانية، وحوارات بشقيها الذاتية والموضوعية والحدث).
وباستدعاء النص السردي السيري كما نرى (ليل صاخب جدا) الذي نسجت عوالمه الروائية هدية حسين واسهمت دار الذاكرة للنشر والتوزيع في نشره وانتشاره/2019.. كونه نص يتكئ على قيم أدبية وفكرية تحيل التاريخي الذاتي الى أفق يتجاوز البوح والاعتراف بصيغة فنية تمازج بين الواقعي والتخييلي فتحوله الى وعي فاعل ومتفاعل والواقع الاجتماعي.. فيسهم في توثيق الفضاء الزمكاني والحدثي.. ابتداء من العنوان الايقونة السيميائية الدالة بفونيماتها الثلاثة التي تكشف عن ذات مأزومة من صخب الواقع.. ونرى نحن ان هذه الايقونة يجب ان تكون(فتاة القطار الصاعد الى البصرة)..كونها مستلة من المتن النصي بأحداثه المتمثلة بقولها:
(في المحطة الثانية صعد رجل، جاء الى المقعد المقابل لي وقطع علي التذكر..الذكريات تنحت مفسحة للرجل مكانا..تنحنح ثم اتخذ مكانه وجلس من دون ان يلقي علي التحية. لماذا يلقي علي التحية رجل لا اعرفه؟البعض يفعلها ثم بعد حين يفتح حوارا قد لا تكون مهيئا لسماعه… كنت بحاجة لسؤاله:كم محطة بقيت ليصل القطار الى البصرة. غير انني تراجعت، ثم شعرت بانه ينظر الي.. لا احب الرجال الذين يواصلون النظر الى المرأة من دون سبب..ولكي انس أمره فقد تناولت رواية فتاة القطار لانشغل بها عنه..) 28..
فالنص يعتمد الحوار الذهني أو التواصل الذاتي(المنولوجي) ـ حوار الذات والنفس ـ الذي تقيمه(ياسمين) بؤرة السرد المركزية مع ذاتها ابتداء من الاستهلال(اجلس على مصطبة اسمنتية في المحطة العالمية للقطارات التي بنيت في الاربعينيات من القرن الماضي.. ما تزال تحمل في طريقة بنائها الفكتورية ملامح البناء الانكليزي المتواشج مع السمات المحلية. أرادها الانكليز ان تربط العراق ببلدان العالم. لكن احلامهم لم تتحقق. بقيت المحطة محلية بتسمية عالمية) ص7..
مع هيمنة ضمير المتكلم(انا) ـ ياسمين ـ على ضمير المخاطب الذي تبنته المنتجة (الساردة) المتمثل بـ (سراب) في نصها الحكائي..
ياسمين= الفعل ـــــــــــــــــــــــــ سراب=المحرك للفعل
(تواصل الافعى المجلجلة اندفاعها من محطة الى محطة.. لم يكن التبريد جيدا في طريق العودة. أرى وجوها متعرقة وأخرى تحرك أمام وجهها مراوح من قماش أو من خوص النخيل. الا انني على الرغم من ذلك أشعر بالبرد ونحن في منتصف الصيف. ما بال هذه الاصابع ترتجف. هل دنت النهاية؟ يقولون ا ن اولها برد ومن ثم ارتجاف واخيرا…. لا شيء. لكنني لا أحبذ ان تكون نهايتي في قطار. أرغب ان اكون على فراشي لاستقبل اللا شيء الذي يقول عنه مازن، وربما يكون ثمة شيء بالنسبة لي ولا شيء له.. وعلى الرغم من انني سامحته في آخر لحظاته بتأثير نظرة رضا. الا انني قلت في نفسي فليذهب اللا شيء الى……………..) 68..
فالنص عبارة عن مشاهد استباقية واسترجاعية تحقق وجودها ذاكرة عاشت يومياتها مع تخيلاتها وتداعياتها بذات عميقة مقترنة بالزمن(القطار)الرمز وشخصية(ياسمين) بؤرة السرد وهي تردد(انا الراوي)كما نرى محققة جدلية ما بين الهوية السردية والذاتية، كون الشخصية الروائية تتعامل مع طرفين متفاعلين شكلا البناء الفني للنص تمثلا في:
الهوية السردية= الخارج
الهوية الذاتية= الداخل
والتي تتميز بتشظيها وتوزعها على مسارات السرد.. فضلا عن ان المنتجة(الساردة) تعمدت بتركها مساحات منقوطة تستدعي المستهلك للكشف عما يناسبها بإملاء سواداتها والنفاذ من خلالها الى روح النص والتعمق في عوالمه.
(تقتحم حياتي(سراب) وتحاول تغيير بوصلة ايامي فتكسر هدوئي بما لا يضيف ازاء بلاغة صمتي أي معنى، وعلى الرغم من استيائي منها في كثير من الاحيان الا انني اشفق عليها. ربما لأنها امرأة وحيدة لا تجد من يصغي اليها سواي. فأشعر لو أنني مسؤولة عنها لعلي أغير شيئا فيها واجعلها تتحدث بأمور مجدية، أو تعرف قيمة الصمت في الوقت المناسب، أو……) ص13..
فالبناء السردي يتشكل متمفصلا على السيرة الذاتية المؤطرة بالتخييل، كونه يتأسس على مركزية الانا الساردة في النص المقترن بالواقع الذي شكل حضوره بتميز تجاوز المتخيل وغطى عليه. فضلا عن أنسنتها للجماد نتيجة الوعي المتداخل بين المتخيل الفني والواقعي. وهذا يعني ان السرد ينطلق من التجربة الواقعية المتفاعلة والتخييل. مع توجه الى عالم الذات والداخل..
(أنا الآن عاجزة عن تحريك زمني كما أشاء. هل كنت أخدع نفسي طيلة السنين الفائتة كلها بادعاء القوة؟ انني في اشد حالاتي وحدة. ويخيل لي انني اسمع اصواتا مبهمة تأتي مع الرياح كأنها أصوات كائنات خرافية.. انسحبت الى غرفة نومي. أجرجر قدميّ وألقي بجثتي على السرير. السرير الذي لا يتسع لاثنين. أطفئ ضوء المصباح. أحدق بالظلمة فأرى صورا تتخاطف ولا تستقر على أشكال محددة. الساعة تشير الى الواحدة والربع بعد منتصف الليل.. وصوت فيروز ينبثق من نافذة مجاورة:
(مع مين بدك ترجعي بعتم الطريق لا شاعلة نار ولا عندك رفيق
يا ريت ضوينا القنديل العتيق. بالقنطرة. يمكن حدا كان يهتدي..
وما في حدا) ص109 ـ ص110
فالنص يعتمد الانا الساردة عبر محطتين للسيرة الزمنية وحركتها التي تمثلت بالقطار الصاعد للبصرة واستقلته بعد ان هجرت القطار الصاعد الى الموصل. وهذا ما يكتشفه المستهل السردي. فضلا عن انها تعري العوالم الخفية لعلاقة الرجل بالمرأة في المجتمعات الشرقية وهي شاهدة على منعطفات هذه العلاقة..
(انت نادرا ما تحكين لي عن ذكرياتك معه. وحينما تتحدثين عنه مضطرة لا يبدو انه كان مهما في حياتك. تهشين ذكراه كما تهشين ذبابة وقفت على ارنبة أنفك. حتى أنك لا تسبقين اسمه برحمة الله. فهل تخلصت منه لأنك أردت ايقاف المعاناة معه وطلبت الطلاق منه فرفض؟ أليس هنالك قانون للخلع؟ أم أنت تريدين الجمل بما حمل فدبرت له مكيدة تأخذه الى ميتة طبيعية أو غير طبيعية) ص27..
اضافة الى توظيفها تقنيات واساليب فنية كالتنقيط والاستفهام والاستباق والاسترجاع والتضمين . مع اعتماد الزمن الافقي والحدث الخاص بساردها..
وبذلك قدمت المنتجة(الساردة) نصا حقق ذاتها ضمن حركة مركبة من الواقعي والسيري الممزوج بالتخييلي لخلق سرد حكائي يقوم على وعيين ذاتيين: اولهما: وعي الشخصية. وثانيهما وعي المنتج(السارد)..الذين يكشف عنهما نصها السيري الذاتي antobiographi وقد سبقها في ذلك صنع الله ابراهيم في(تلك الرائحة) التي كشف فيها عمق التسلط على الفرد ومحاولة تهميشه والغائه. والتقى معه في تصوير المعاناة الانسانية محمد شكري في(الخبز الحافي)..اضافة الى(يوميات مطلقة) للروائية السورية هيفاء البيطار. وكل هذه السرديات السيرية تصور القلق والخوف الانساني..